النجاة.. كمحاولة!َ

منذ الخروج الأول الذي اعتقدنا أننا كسرنا فيه كل الأنماط التي تبنيناها بشكل فطري، واكتسبناها وراثة من أبائنا وحاراتنا الضيقة وعوائلنا المعقدة، لم نزل نتعثر بفتات من ذاكرة قديمة، أو ماضٍ لم ننجُ منه جيداً في وقت سابق، وآخر ما استطعنا التعامل معه بما يكفي لننجح بالتخلص منه.

نجاة من سطوة الـ لا:

بداية كان الأمر مرتبطاً فقط في أن تقول لا، “لا” في مقابلة النظام المجرم عندما يجبرك على الخنوع في وجه الرصاص. “لا” في مواجهة المجتمع الذي يكسرك كي لا يخسر. “لا” في مواجهة الخيبات الكبرى والخسارات المتلاحقة التي ستمنّ عليك بها الحياة تباعاً، من أول انشقاق نحو الحرية، وحتى كل اغتراب وحصار وموت يلتصق بها زوراً.

لم تكن المعارك في ذلك الحين محطّ تقييم، أي أنك لم تكن تستطيع أن تكسب سنتميترات زائدة بعض الشيء لتنظر نحو آخر الشارع وتلتمس خبراً يُنبئكَ قبل انزلاق رصاص إلى صدر صديقك في المظاهرة، أو أن تمتلك فراسة الناظرين نحو زوايا الأبنية لتستطيع أن تجد انعكاس عدسة القناص في عينك لتهرب منها. كان الأمر مفاجئاً لذلك لم يكن هناك ضرورة لتبحث عن إجابات. الموت، الموت هو النهاية المتوقعة فقط. والركض هو السبيل للتخلص من هذه النهاية، أما فرصة الاعتقال فهي ضمن الاحتمالات من الدرجة الثالثة، لأنك في المنتصف. المنتصف المغمور بين آلاف الماضين نحو الحلم الأكبر.

أما المعركة مع أصوات الـ “لا” الكثيرة فقد تسمعها من والدتك في المطبخ وأنت تشرب قهوتك الصباحية محاولاً استدراك الوقت قبل أن تكتظ مكاري المدينة بالطلبة والموظفين والهاربين “برضايي عليك يا أمي بلا وجع راس”. ستسمعها من خالك المؤيد الذي يرى بما تحلم به “فورة وعلاك مصدي”. ستراها في عيني عمك الذي لم ينسَ مرارة الاعتقال منذ عشرين عام بعد وهو يخبرك هامساً “رح يغرقوكم بالدم لك عمي”. ستكون ثقيلة عندما تبدأ بنبرة أخيك العالية وهو يحلف بكل ما يؤمن به أنه سيخرجك من كل هذا الانخراط الأعمى ليريك الحقيقة، حقيقة أن لا شيء من كل هذا سيجدي نفعاً، ولا حتى موتك في سبيل الثورة!.

أما الـ “لا” الأخيرة، فسأتركها للزمن البعيد لأنني حتى اللحظة لم أستطع النجاة منها، ولو في محاولة جادة لمواجهة كل ذلك.

نجاة بالتخلي:

مع تراكم الارتباطات والمسؤوليات، ومع الشعور الدائم بأن ما تملكه سيتسرب منك عاجلاً أم آجلاً. تبدأ مرحلة جديدة في مواكبة الحالة التي تريدك أن تنهزم لكنك تقاومها. الأمر تماماً يشبه السفينة التي تقف في عرض البحر مليئة بالحمولة غير المجدية والتي توشك أن تخسر ثباتها ضمن العاصفة، فترمي ثقلها بالتوازي. تسعى لتصير متخففاً، ترمي بثقل معقد لم تكتسبه وحدك، وتتخلى عن فكرة كنت قد اعتنقتها دون أن تثبت أقدامها فيك بما يكفي. تترفع عن مراقبة الناس، وتترك العلاقات التي تكاد تبتلعك اتساعاً دون جدوى أو فائدة، ومنها مقبرة التواصل الاجتماعي التي تجعلك مهووساً بتقليب الدوائر المضاءة، والعمل على مسح ضوئي شامل لكل كلمة كتبها فلان، وكل صورة نشرتها فلانة. والكثير من الشتائم التي تكسبك وقتاً للتسلية وأنت تقرأ تحليلات صديقك التافهة على أمر لا يسمن ولا يغني من جوع، تتخلى عنها ببساطة بأن تغلق كل حساباتك دفعة واحدة وتترك نفسك هائماً بهاتف لا يؤرقك بإشعاراته وضوئه الذي لا ينطفئ . هكذا حتى تصبح كائناً يستطيع السير دون أن يوقعه وزن زائد.

بالمناسبة، الوزن الزائد بالحقيقة هو آخر ما يمكنك التخلي عنه وإن عملت على ذلك. هذه إحدى المعارك التي تعرف أنك إن فشلت فيها ستعيد الكرة مراراً، ببساطة هكذا، فلا أحد يشترك معك في هذه المعركة سواك والهزيمة هنا تتميز بفردانيتها.

نجاة بالمصادفة:

المصادفة هي التي تجعلك تواجه حقيقة الفشل وهذا أكبر ما يجعلها مدعاة للسخرية والخوف معاً، أي أن إدعاءاتك الملونة بالقدرة على تجاوزك ما مضى، وقدرتك على امتلاك زمام ما سيأتي هي فشل مغطى بالسكر، حلوى لم تَكشِف عن ما بها بعد.

هنا، عندما تدرك ذلك، ستكتشف أن حروبك في النجاة على مدار السنين الثمان الماضية هي مثل لعبة القط والفأر التي ستهزمك في نهايتها قشرة موز لم تكن تلقي لها بالاً، لكنها ستوقعك!.

وعلى هذا  تسبقنا الحياة بسنين طويلة، ثم نقاوم سرعتها بمحاولات ركض، ونقع آلاف المرات، لا نستطيع أن ننهض دون أن نفقد رغبة جديدة منا. ومنها حتى يصير نهوضك الأخير محض تخيل عابر وصورة باردة من بقاء حتى أنت.. لا تعرف لماذا عليك الدفاع عنه؟

نجن لم ننجُ من قال أننا فعلنا؟

خوف ناضج..

أنتَ لم تعد أنت.. هذا ما يبدو عليه الأمر في البداية، حتى تعي تماماً أن تلك البداية كانت خاتمة لمرحلة ضخمة في حياتك. حسناً من أول السطر الذي لم ينتهِ رغم كل هذه الأيام التي مرت، يرقد شبح الكوابيس مجدداً فوق رأسي، ويلقي بظله الفارغ تحت عيني، أبتسم لحلاوة الأمر بعد أن اعتدته، أحدهم أخبرني أن عيون الباندا هذه جميلة للغاية، “التعب اللذيذ” كما تقول قرينتي..

البؤرة التي تفتح عينك فيها سوداء للغاية، عفن ربما، أو تراكم لخيبات وانكسارات وراحلين وخاذلين وجثث كثيرة إحداها تخص حبيبك الذي يهرب كل ليلة إلى زاوية النسيان فيكِ وتعيدينه حياً.. وضجيج وعزلة وهرب إلخ….

خوف يسيطر عليك، هذا بالذات هو الاكتمال الوحيد الذي منحتك إياه “أزمة” بلادك كما يريدون لها أن تُسمى، والتي تُصر أن تعاندهم قائلاً أن “ثورتك” المقدسة كسرت ميزان الخوف ذلك فيك.. تتساءل علقة الإصبع الجالسة في صدرك، “لحظة عن أي خوف تتحدث؟ أقصد أي ثورة؟”

تداخلت المفاهيم تماماً، يحلو للبعض اليوم تسميتها بالاسم الأكثر شيوعاً والأكثر منطقية، “الحرب” لا نرجع لخلفياتها ولا لمسبباتها ولا لأي شيء يمت بصلة حقيقية معها، هي حرب وحسب، حرب تبتلع أخضر البلاد ويابسها وتنهش في طريقها أحلامك وعمرك وأصدقاءك، وهنا علينا أن نعود لمنطق الخوف الذي تزرعه داخلك بتأني..

لا أذكر أنني خفت هناك، أقصد عندما كنت في سوريا، كان الأمر سوريالياً بطريقة غريبة، كانت ضحكاتنا تتسابق مع أصوات القذائف لتغلبها، كنا نمارس كل الجنون تحت زخات رصاص القناص المجنون، آخر ليلة قضيتها في منزلي وكان الطيران يحلق فوقنا كذبابة ثقيلة الظل تزعجك بزنها ولا تستطيع ضربها بيدك لتخرس، حملنا الدف حينها وأصبحنا ننشد ونهتف ونغني حتى منتصف الليل. لم أكن أدرك أن الخوف كان طفلاً صغيراً داخلي لم يكبر بعد، طفلاً أحب اللعب مع الحجارة المؤذية في الحارة، ولم تردعه ضربات أمه المتكررة على يده، لم أكن أخاف، أو ربما كنت أبلغ من التحدي والحقد ما يجعلني أكره أن أُكسر هناك، أو عندما كنت هناك..

في الفترة الأخيرة تماماً بدأت أرى نضوج الطفل ذاك جيداً، بدأت أشعر به يمسك بيدي كلما أقدمت على تصرف مجنون، أصبحت أحس بتوسلاته لي ممسكاً بطرف فستاني القديم جداً ليجعلني أغير رأياً أعمل عليه منذ أيام، لقد أصبح ذلك الخوّاف الشبح الذي يؤرق ليلي، وصرت أنا المنزوية في طرف هذا العالم أراقب كل ما يخصني خاضعاً لسلطته هو، خوفي الناضج!

العالم الذي كان ملعباً صغيراً بالنسبة لي، “ما بينخاف عليك، وين ما زتيناك بتجي واقفة، قدها وقدود، قوية وأخت رجال” كل تلك الألقاب أصبحت عبارة فقط عن خلفية صوتية في عقلي التائه جداً، تكرر نفسها كلما تقدمت لأفعل شيئاً وتراجعت مترددة عنه. “ربما لم أعد كذلك!”.. صحيح يقولون أني عندما أنخرط بالحديث عن سوريا تلمع عيناي جداً وأن “عيوني بتحكي وقتها” هذا الأمر يربت على كتفي أحياناً كي أقنع أن هناك شيئاً مني بقي صامداً ولم يتغير بعد. صديقتي التقطت لي خلسة صورة أثناء حوار ما، لم أعرفني فيها.. بقيت شاردة وقتاً طويلاً. ربما لم تُضعني الحرب كما يقولون،  قد تكون الغربة أو هذه البلاد، أو ربما أضاعتني تلك الانخراطات النفسية التي جعلتني متيبسة هناك وقتاً طويلاً، قبل أن أدرك تماماً أن الطائرات التي تحلق فوق رأسنا هنا، طائرات مسالمة أي أنها لا تنتمي لسرب العدو ولن تمطرنا بالموت، وأن الأصوات التي تفزعني كل فترة ما هي إلا “طق فتيش” وألعاب نارية للتسلية، وأن الوهم الذي يعشعش في قلوبنا ما هو إلا ذاكرة رفضت أن تخرج من حدود تلك البلاد اليوم..

“ألم تنتهوا بعد؟ ما جدوى كل الذي فعلتموه إلا دماراً وتشرداً وموتاً لاحقكم وأنتم شرذمات هنا وهناك!”

تسألني إحداهن، أجيبها مبتسمة: “مو نحنا صحاب الخطوة الأولى”، وكما يجب عليك كعاقل أن تدرك أنك مضيت في الثورة عندما وضعت تحت نارين إما أن تكون في صف المجرم أو أن تكون في صف العدالة، اخترنا العدالة كصيحة للحرية وهتفنا بها، آمنا بها كما آمنا بأمهاتنا ساعة ولادتنا، وكما نؤمن دائماً أن الحياة التي زرعنا بها قد لا تثمر بين أيدينا، ولكن على الأقل كي لا نلعن أرواحنا عندما نحتضر يوماً ونقول تخلينا عندما ترك الجميع أيدينا. نحن تغربلنا حقاً لم يبقَ إلا قلة تمسك بالعهد وتوفي به، وهذا الأمر ليس بطولة بل موتاً، لأنك مدرك تماماً أن حلمك صار قهراً عظيماً وأنك وحيد .. بعيد .. منفي، وأن كل وجوه الشر تجتمع لتحيل حلمك سراباً كأنه لم يكن وأنت لا زلت تمسك به، تتحدث عنه، تبث فيه الحياة وسط كل هذا الموت.. وأنك ولو عادت بك الكرة لاخترتها بكامل الحب والتضحية والرغبة، وما اخترت سواها سبيلاً!

هل ندمنا؟

قط!

رغم أن كل ما حصلناه من بؤس وتعب في طريقنا الطويل هذا يفضي لنهاية مماثلة ومغفورة أيضاً، لكن الأمر لا يرتبط بما أُريدَ له أن يكون، بل بما تريده أنت أن يكون، على الأقل في داخلك. كل التشوهات والصعوبات والأشياء تحملك لتكون شيئاً واحداً في هذا الزمن إن لم تستطع أن تصنع نصراً على الأقل لا تسمح بأن يصبح كل ما مررت به نسياً منسياً، وتسمح للقتلة أن يركضوا فوق قبور من نحبهم مختالين بتغلبهم على ذاكرتنا الخجلى، لا تسمح لأن تصبح الصورة التي دفعنا لأجلها جُل ما نملك غصباً وربما طوعاً أن تصير هامشاً تخجل أن تحدث عنه ابنك..

نسيت.. أنا مصابة بزهايمر جبان..

سأعود لمحطة الخوف قليلاً، على طاولتي خمس أوراق تنتظر البت فيها، وحياة جديدة ربما، ومفترقات طرق وعرة وضرورية، وبيني وبينها ابني ذو السبعة أعوام يقف متلصصاً على اختياراتي، ينتظرني أن أقرر ليبكي مجدداً وينوح في وجهي “لاء يا ماما لاء ما تعملي هيك” وأنا أراقب الدمع الملتمع خلف الجفنين، وأتنحى!

 

أثقل من وطن..

يجردونك من نفسك دائماً كلما علت صيحاتهم لرميّك في أقبيتهم المخصصة للخارجين عنهم، في كل مرة تلمح في وجوههم نشوة انتصار علني على حلمك، رغم أنهم لم يقاتلوا يوماً ولم يجربوا الهرب في الأزقة الضيقة ولا الاغتراب في المدن الكبيرة التي تأكل من روحك ورغباتك كل يوم قضمة! ، هم لم يدخلوا في صراعات طويلة مع أنفسهم خوفاً وضعفاً ووحدة، هم لم يفعلوا شيئاً سوى التصفيق للقاتل بينما يكملون حياتهم على رفات دمائنا الذي لا يزال على تلك الأرض التي أحببناها..

هم يدّعون أننا خونة وأننا غدرنا بالبلاد يوماً، وأنهم الصالحون الجيدون الذي لم يكسروا اليد التي امتدت لهم فضلاً ومنة، وأننا جاحدون إذ رأينا كل ذلك الموت يتأرجح بيننا ويسرق منا أحبتنا ولم ننسَ، كيف لم ننسَ؟ أي كره هذا الذي نحمله في قلوبنا؟. يتحدث المتسامحون من قلب المعركة ويخبروننا أنهم ينتظروننا دوماً على الضفة الأخرى، يخبئون أسلحتهم الدنيئة يدوسون على قبور أحبتنا يضحكون لنا ولا يزال أثر الدم المتخثر على وجوههم بادياً كشبح مخيف، ويريدون منا أن نقف لصفهم، مرة وأخرى هكذا يُصلح الأمر. لا أدري من ذاك الذي شرح لهم أن الأمر له علاقة بنا نحن! وأنهم هم القتلة والغافرون في الوقت نفسه، وأننا نحن الموتى المهجرون والمعتذرون، من وزع الأدوار بيننا بهذا الشكل؟. أنا أخبرك.. الشخص ذاته الذي لم يرَ سلاح الأسد موجهاً نحو صدورنا عندما صدحت حناجرنا حرية، ولا في سماءنا عندما ألقى براميله الجوفاء فوق رؤوسنا لكنه ركز نظره نحو تفجيرات مدروسة لم يكن لفاعلها اسم صريح فتباكى عليها وألحق بنا اللعنات، هو ذاته الذي يرى بكل موت يمسهم جرماً وبكل موت يصيبنا مهما تعدد شكله انتصاراً، هم ذاتهم اللائمون على حقدنا يبادلوننا مع كل مصيبة سخرية تفوقهم حجماً..

نحن لم نعد ننتمي لشيء، نهبتم الوطن وقلوبنا، حتى القبور التي زرعنا عليها وردنا وودعناها بعودة ونصر، جفت في انتظارنا الطويل، أنتم حولتم الوطن الذي أحببناه دائماً لغصة لا ننتهي منها مهما اغتربنا وابتعدنا، نحن الذين لازلنا نحاول النجاة من ذاكرتنا فيعيدنا اشتباه بجنسيتنا لأصل كل شيء نهرب منه، أنتم أصبحتم الصورة الأسوأ للوطن والتي بتنا نخاف أن نعلقها في مكان واحد بجانب التي حملناها معنا في مواطن الاغتراب. أخاف على الذين لا يزالون بينكم يحاربون كرهكم وسوادكم عن قرب صامتين، لأنكم مع كل ديمقراطيتكم تحاربون كلمتنا كوحوش ضارية تعتقلون وتغتصبون وتسرقون حتى ولو كان مجرد حلم في عقل شاب مسّت الثورة قلبه ذات فجر. كل الذين أرادوا منا أن نبحث عن سوريا منذ أيام تحت لباسها المسوّد احمراراً لم يعرفوا كم كان الأمر متعباً، عندما تجد نفسك خالياً حتى من حقك في أن تهتف لوطن، بعد أن تقاسم الوطن معك جرحاً أكبر منك ومن شوقك ومن حاجتك، وجع لونه بلون الدم، فلم تستطع أن تنسى..

نحن بعيدون جداً، ونحاول ممارسة الحياة تماماً مثلما تفعلون ونعجز، الحياة التي تظنون أنها الخير لأننا خارج دائرة عذابكم وكأننا منحنا الجنة خارج الوطن، ونغرق بالنعيم ونرمي عليكم وزر اغترابنا. تتناسون كم كنا تحت العذاب بينما نعمتم أنتم بالمسيرات التي يُرمى عليكم بها ورد ورز وسط دمشق، وسط عاصمتنا، في قلبنا نحن الذين كان الرصاص هو شريك ساحاتنا. نحن لن نصل لنتيجة معكم هذا الأمر حتمي، دفاعكم عن رغبتكم بالعيش هو ذاته دفاعنا عن ذاكرتنا التي تلونت بكل ما مرت به فأصبحت بلا لون، دفاعكم عن صوتكم الذي تريدونه أن يكون حراً وللجميع، يشبه دفاعنا عن اسمنا متى ربطتموه في الخيانة واللاوطنية، دفاعكم عن حزن سوريا بسببنا، هو ذاته دفاعنا عن حلمنا بسوريا أفضل، بينما تنعمون أنتم بكل ما يؤمنه لكم نظامكم الباسل من فرص للحياة، نغرق نحن بؤساً بمتابعة كل موت يمس أطراف البلاد، ذاتها البلاد التي يقطن فيها الخارجون عنكم والتي تعتبرونها هامش موت تصلحونه بانتصار زائف وتزرعون فيه حياة تشبهككم لاحقاً ..

كل آمالنا اليوم صارت سوداء ونحن نحارب العالم أجمع هذا عذاب ضعف الذي عشتموه وأنتم تمثلون المقاومة، ونحن هنا نحارب ونقاوم ونحاول.. حتى أجل النهاية!. لا حياتكم لنا .. ولا نرغب بها .. وكل ما بقي لنا في هذا العالم المقيت مجرد ذاكرة ثقيلة جداً كانت تحلم ذات رغبة بوطن..

في طريق العودة..

يفتح الحرّاس باب القلعة الضخم جداً حيث يستعينون بعشر بنادق، وطائرتان وثلاثة صواريخ وبرميل محشو بالديناميت لفتحه، صوت احتكاك الباب بأرضية الدم يصدر صوتاً مزعجاً لكن أحداً لا ينتبه لذلك، فالقادمون الكُثر يريدون الوصول إلى الداخل وحسب، يريدون وضع أمتعتهم المرتبة في المكان المنتظر، فالخارج كان متعباً ولا يكف عن لفظهم وطردهم متى تثنى له الأمر، لم يصدق أحد خارج أسوار القلعة أنهم مهددون وأن هناك عشرات الجيوش تريد الانقضاض على قلعتهم الجميلة، وآخرون لم يصدقهم العالم خارج الأسوار رغم عاشوا تحت ظل ذلك الظلم سنيناً ليدركوا أن هناك يداً داخلية تبطش بالجميع باسم الاعتداء الخارجي.  أخبرتهم بعض الرسائل التي وصلت على أرجل الحمام الزاجل أن هناك بعض الخراب داخل أسوار القلعة وذلك نظراً للهجوم الشرس الذي تعرضت له من أعدائها الكثر، ولكنها بقيت صامدة متينة تقاوم كل أشكال الموت الذي لا يحلق فوقها بكل الإمكانيات اللازمة، فأصبحت تلقي الخطب الكثيرة عن طريق رجال القصر الملكي، وتتبعه ببعض التصريحات التي تُنزلها في جريدتها اليومية وتوزعها على عوام الشعب، أصبحت تزرع فرقاً موسيقية على كل شارع رئيسي لتغني لمجد الصمود، سمحت بالضحك، وخصصت جوائز لكل مصفق يصدر صوتاً أعلى بيديه، قامت بالاحتفالات الكثيرة وأطعمت أهلها الذين أثروا البقاء فيها على محاولة الهرب، وأصبحوا مواطنين شرفاء فلم توصمهم بدرجة مواطن ثاني. كانت القلعة صامدة كما يبدو لجدرانها العالية والمتينة، لكنها استخدمت سياسة رد العدوان بضعفه، ولأن منجنيقاتها كانت محلية الصنع وحديثة، ولأن بعض أصدقائها الذين تكرموا عليها بفضل المقاومة ورد العدوان الغاشم، أهدوها الكثير من الحجارة المتينة التي تشتعل ناراً متى انطلقت، لم يجد الجناح العسكري للقلعة بداً من تجريب الأسلحة قصيرة المدى داخل القلعة ليختبر فاعليتها، فأصبح ينهال بها على رؤوس أهل المدينة من الداخل، ويستمع لعويل موتهم ليتأكد من نوعية أسلحته، كان هذا الأمر المكرر يجعله مؤمناً بأنه سيغزو العالم عندما يقرر الخروج خارج أسوار القلعة، لكنه بالطبع لم يفعل.

عندما دخل المواطنون “درجة ثانية” وهم الذين توقعوا أن الأمر برمته قد انتهى، وأن الحياة ستعود لتقاسمهم خبزهم بدل الموت، تنبهوا للخراب الكثير الذي يشكل الجزء الأكبر مما وراء سور القلعة، الخراب الذي ضم منازلهم وبعض أهلهم الذين تركوهم خلفهم، على الجانب المقابل كان هناك مظاهر حياة لم تصبها أذية، مشهد مقتطع من عالمين مختلفين تماماً، كانت وجوه الناس في الداخل سوداء قاتمة تعلوها غشاوة سوداء من الخيبة، أحداقهم جافة ونظراتهم باردة، بادئ الأمر ظنوا أنهم قد أخذوا كل السوء الممكن مما شاهدوا وأن الأمر لا يتعدى أنه مقاومة المرارة وسينتهي بانتهائها وتعود الأمور لمجاريها، اقتنعوا أنه بإمكانهم تغيير المعادلة، بالطبع سيعملون ليعيدوا لهذه القلعة العظيمة حياتها، تم اعتقالهم بتهمة التفكير، وحبسوا في الأقبية المخصصة للخونة، تسأل أحد الشبان “أولم تقولوا أننا بحاجة لنعيد بناء بلادنا لماذا رميتمونا في السجن؟”، أحدهم أخبره هامساً “أن شرط العودة كان الصمت، ما كان عليك أن تتحدث بصوت مرتفع يا صديقي”، كان السجان الذي يشرب الخمر ويقهقه مع زميله الآخر على المقبرة الجماعية التي تقع عند سور القلعة الخلفي، كان يشرح له وضعيات الأشخاص الذين قام برميهم هناك، لم يستمع لصوت الشاب فهو كان يتحدث في نقطة أكثر أهمية، كيف سيبنون على تلك المقابر الكثيرة أبنية الحقبة الجديدة، حقبة انتصارهم المزيف!

كل الراكضين إلى ما خلف القلعة العظيمة تعثروا ببقايا الجثث التي امتلأت بها الطرقات، والتي لم تكن عميقة بما يكفي كي لا تخرج من تحت الأرض، لم يتمكن أحد من معرفة أين موضع قدمه بالضبط هل مس رأس ضحية، أم قلبه، أو أنه قام دون علم منه بالضغط على إصبعه الذي رفعه مقاوماً جندياً حقيراً وجه نحو صدره رصاصة. كان الراكضون إلى حضن البلاد كما أرادوا أن يعتقدوا دوماً يظنون أنهم عادوا إلى مكانهم الآمن والخاص، لم يدرِ أحد منهم أنه وقّع بالدم في أول خطوة خطاها على تراب الوطن المليء بجثث الصامدين المذبوحين بأن القاتل الذي كذب في حمايته لصرح القلعة العظيم كان اليد الأولى في كل الخراب الذي آلت إليه، وأنهم بكل صمت جديد سيمارسونه غصباً أو جهلاً سيحفرون قبوراً جماعية لهم أيضاً وسيتكفل هو حينها بتسمية الموت الذي سيُصب عليهم باسم جديد “الإرهاب _ الخيانة _ التفكير _ التمرد _ الجرثمة _ الاندساس” فالقائد هنا خبير برد الاعتداءات الخارجية بإغراق شعبه في الداخل بالدم!

آخر النفق..

كنا جمعاً ثائراً قررنا حينها أن نحارب على دمنا كل الأشياء معاً، وأن نقاوم رغم كل ذاك الوقت والخراب بثقة البداية نفسها، سقط بعضنا في أول الطريق ورحل آخرون في العتمة، وكُتِب على البقية الذين لم ينل منهم موت ولا غياب أن يحاربوا العالم، وأن ينتقلوا من صرخة في الشارع للمطالبة بالكرامة والحرية إلى نداء بإحقاق قليل عدل لهم في الأروقة الصماء، بصوت يكاد لا يزلزل ركناً صغيراً في هذا العالم الهادئ..

كلما جربت الهرب من كل هذا أعود غصباً، أعدد أسماء المختفين هناك بين اعتقال واحتياط وموت، أسمع صوت طفلة يمزقها الجوع في مدينتي، وأدرك خطى العابرين وتصعقني كثرتهم، فلا أحد هناك يقاوم الموت، الكل يركل أهله بقدمه ليتابع سيره، لا أحد يريد أن يمسه الخطر الذي نغرق فيه نحن، نحن الذين لم نعرف أن نصافح قاتل، أو أن نصالح على دمنا. في شارع المدينة المعتم ينام صبيان أمام فندق يكاد يفرغ إلا من جيوب الأغنياء، يحاولون إبعادهم عن الطريق كي لا يتشوه المنظر الحضاري للمدينة، أم تشتري لأبناءها طعاماً تستر عورة المال بابتسامتها لهم عندما يأكلون بعد جوع، رجل يخفي هويته في جيبه الخلفي كي لا يتذكر أنه من المدينة المغضوب عليها، يكفيه أن يتذكر ذلك عند كل حاجز لعين، غالباً ما يفضل قطع المسافات مشياً، فالموت الفردي في هذا العالم أكثر مصداقية..

لم نعد نريد أن نكون جزءاً من كل هذا، حتى من محاولة النجاة الضئيلة التي تخنقك خياراتها وتحددك متطلباتها، وتسمع فيها ما يهدد أمنك واستقرارك اللحظي في كل مرة، حيث لطالما رُدد عنك بالخفاء “كان الأولى تحترمك بلدك قبلنا”، لا يمكنك المحاججة بظلم، أنت ابن الظلم الأكبر، الشبح الأسود الذي ابتلع ماضيك وحاضرك وغدك، كيف تريد من الآخرين أن يمنحوك عدلاً؟ ، أو جزءاً من حقيقة كونك الشارد الضائع في ظل الظالم، تحاول كل يوم أن تنجو بروحك من كل هذا الموت المقيت، تحاول في كل مرة أن تمنح نفسك تبريراً واحداً لمنطقية البقاء محاصراً بكل هذا البطش، فلا تجد!

كل هذا العالم تحول إلى سجن، من أصغر بقعة تعتقل أجساد من نحبهم وتكيل بهم كل أنواع العذاب والظلم، لأكبر بقعة جغرافية يعيش فيها حاملو الجواز الكحلي مع القليل من الأمان، وكثير من الوجع والتعب وبقايا الحلم.. كل وقت يمر يؤكد لك كم يجعلك الحزن ناقصاً وكم يجعلك الفقد فارغاً إلا من صور الراحلين وأصواتهم، بينما تطوف روحك في كل الأماكن التي خلفتها في مدينتك وفي المدن التي زرتها مهاجراً مسافراً وأنت تظن أن بعض الموت سيتضاءل أو أنك ستنجو ربما، والمرارة أن لا نجاة طالما أن قلبك لا يرى المسافة بينه وبين كل أولئك المحزونين إلا عجزاً وقهراً.. نحن أبناء اللعنة التي تجعلنا نكفر بكل هذا الظلم الذي يلحق بنا، ونحن نثق ألف مرة أن لا مفر من كل هذا .. لا مفر! .. ولا زالت الوداعات هي سبيلنا الأسود بين موت واختفاء ومتاريس حدود.. وأحبة ننادي اسمهم في الفراغ ولا يجيبنا إلا رد الصدى أن “لا نجاة لكم ..لا نجاة منهم!” ..

خطاب العنصرية الحديث

اعتقدت دائمًا أن هذا الأمر ليس نتاجًا للضغط الذي يدعيه مستلمو هذه الحملات ومنظميها، وليس أمرًا مؤامراتيًا تدعمه الأيادي الخفية والأشباح السوداء، وإن افترضنا جدلًا مسببات هذا الأمر على الهامش لكن في الحقيقة هي أصل تركيبتنا البشرية تكبحها أحيانًا إنسانيتنا اللامحدودة وتلجمها أو تكبر عليها الشراسة  فينا فنَظلم ونبطش ونحن نثق أننا على صواب وإن كان الأمر التشبيحي محدودًا فقط بالكلام الذي لم ينجُ من فعله أحد كما رأيت..

في البداية نحن كشعب سوري كما يُقال عنا “شعب الخطي” لا أرى بالأمر مدحًا ولا تغطية لأني أجد الشعب واحدًا بشراره وخياره على حد سواء تتوزع الأدوار بينهما بالضبط ولا كمال لأحد، فنحن الشعب المضياف المتغني بسيره غير المنكرة أبدًا في احتواء اللاجئين والهاربين من سخط الحروب إلى بيوته وكل المعاملة الممتازة التي بادلَ الأخرين بها، كنا نرى بيننا أشخاصًا نعرفهم حقًا يشتمون العراقي والفلسطيني واللبناني بما تقتضي معه ضرورة الضيق الذي يحسه منهم، كانت المجريات التعصبية أو لنقل التشبيحية مقتصرة على الكلام هذا صحيح لكن الأمر ليس منزهًا البتة وإن كان قليلًا لا يُرى، في حرب العراق عرفت أشخاصًا أسكنوا العراقيين في بيوتهم ودفعوا عنهم أجار منازلهم شهورًا حتى استطاعو الوقوف على أقدامهم، وآخرين كانوا يشتمونهم ويلعنونهم كلما مرّوا بسوق وتصادفوا بهم، كنت صغيرة جدًا وأتساءل “لماذا تكره قريبتي العراقيين هكذا؟ وأنا صديقة كثيرات منهن في المدرسة وأراهن رائعات جدًا؟”

على الرغم من أنني مصنفة في عداد المتشائمين الجميلين، لا أحبذ النظر للكأس نصف الممتلئة، ولا يعجبني أبدًا فكرة الكيل بمكيال الإيجابية بل أنني مملة أحيانًا بالسوداوية بعض الشيء، لكني إنصافًا لن أذكر المواقف العنصرية التي تعرضت لها كثيرًا منذ خروجي من سوريا، وقبل ذلك عندما كنت أتنقل في الريف بهوية شامية، فهي كثيرة ومتشابهة، لكني سأتحدث عن الوجه اللبناني الذي أنصفني كشخص قبل أن يصنفني كهوية، ومنحني ثقة كنت بأمَسِ الحاجة لها آنذاك، والصديقة اللبنانية التي كانت تحب مني كلمة “مو” كثيرًا وترجوني أن لا أتأثر بلبنان ولا فلسطين بقلبها “مش”، وجارتنا اللبنانية اللطيفة التي كانت تتذكرني كلما أعدت وجبة البوشار وتناديني كل ما عدت من العمل لأشرب عندها العصير “وطفي الشوب” .. نحن شعوب تجيشها العواطف دون العقول فترانا نصدق من يخبرنا أننا نقاسم الأخرين أرزاقهم وطعامهم دون أن نرى أبعد من ذلك. أعرف رجلًا لبنانيًا عاطلًا عن العمل منذ بداية الألفية الثانية، وعندما أتى السوريون إلى لبنان بدأ بالندب على فرص عمله الضائعة.. النماذج كثيرة لا تعد ولا تحصى.. ومع هذا فإن الكلام أعلاه لا يعني تبرير الظلم الأسود الذي يقطن اللاجئون السوريون تحته اليوم…

كما لبنان، رأيت في السعودية وجوهًا طيبة كثيرة، لم تعاملني إلا بطيب الخاطر والخير، ولم تحاسبني على هويتي أو موقفي، ووجوهًا أخرى كانت ساخطة وحاقدة ولم تتمنَ لي أكثر من أن تصبح حياتي مطفأة كما يجب على خارجة من تحت الموت.. كل شيء كنتُ أراه منطقيًا بعد لبنان من عيش تحت الأمرين الخير والشر فوجدت اعتيادًا في روحي أمام النموذجين هنا، عدا عن الطفل الذي كَفَرني ذات يوم لأنني لا أضع النقاب على وجهي ثم همس في أذن أخته الجالسة بجواري أنني معلمة “مُزة”، كان هذا الصغير ذو الست سنوات من أفهمني واجهة البلاد أكثر، نُكفر ونحقد ونكره علانية، ونتبادل الحب والجمال خفية، ولا نذكر خير الخفاء بقدر ما نُعظم صورة الحقد، كيف استطاعت مدينة واحدة أن تعلم طفلًا أبغض كلمة يُنعت بها شخص ما عن دينه، وعلمته أغرب كلمة غزلية على الإطلاق ويُقال أكثرها وقاحة؟ .. هذا الطفل نفسه ذات مرة سألني: “ليش ما متي بالحرب اللي عندكم؟”، ولا زلت أتساءل عنه وأجيبني .. ربما لأبقى تائهة في بلاد العالم أبحث عن رقعة صغيرة أُنسب لها وأسميها وطني ولو كذبة.. بينما يمارس العالم سخطه علينا بصوت عالٍ لم يعد أحد يخاف التصريح به أو الخجل منه على الأقل، ليس لأنهم أصبحوا كذلك الآن، بل لأننا في السنين الأخيرة ولأول مرة، لم نعد نمتلك طريق العودة، ولا أوراقًا نرفعها في وجوه المعتدين ونخبرهم أن لنا أرضًا وكرامة تغنينا عنكم، راميين في وجوههم حفنات المال التي يظنون أنها كرمٌ منهم علينا لا جهد وتعب منا .. الأوراق التي باتت تنكرنا مثل تلك البلاد التي يحتلها طاغية لعين هجرنا وقلتلنا ثم أرانا كم يبدو العالم سافلًا عندما نكون غرباء فيه.. وحدنا!

للوجوه اللبنانية التي أحببتها، للخير الذي رأيته في قلوب أهل هذه البلاد، للقلوب السورية التي لم تكن شرًا في هذه الغربة كما يدعون، أنتم وحدكم حقيقة هذا العالم، أما الخراب الذي يُعاث اليوم باسمكم تعميمًا ليس إلا وجهًا من وجوه الشر التي حفظناها عن ظهر قلب وتجربة 🙂

أنا بلا وطن..

لا تسوّرها القضبان لكنها تبدو كسجن، لا يُمنع فيها الطعام بشكل تام لكنها تضم الجائعين والمنهكين، لا تضيق بالفرد اتساعًا لكنها مثل المنفردات لا هواء فيها، لا تحكمك قبضة الظالم الواضحة لتقطع لسانك لكن لا يُسمح لك بالكلام، تبدو الأماكن متشابهة في عينك عندما تضعك في ذات الفجوة، أنت فرد لا حول لك ولا قوة يُسيّرك التيار كيفما شاء تحكمك قوانين وأدوات لا تسأل عن حالك ربما، أنت هنا في سجن هذا العالم الكبير تُهمتك الوحيدة أنك إنسان!

يُقال أنها كلما استحكمت على رقبتك شرًا ستُفرج، ويقول الواقع والأيام أنها ستضيق وتضيق أكثر، المكان الأكثر خطورة في هذا العالم يبدو لوهلة مكانك المنشود، الطريق الوحيد الذي يُسمح لك السير فيه تبعًا لجواز سفرك، لأن الأبواب كلها تحولت إلى متاريسَ في وجهك، حتى اختلاس النظر نحو حلمك يبدو كفرًا، تصبح الأدوات بين يديك عبئًا، دائرتك الضيقة تصبح عبئًا، خطواتك التي تحاول التماسها في الدرب المعتم لا تكاد تُرى، أنت وحدك تبحث عن منفذ، أهلًا بك في هذا العالم الدنيء..

تبدو لافتات الترحاب الموزعة في كل مكان حولك كأنها شبح يطاردك في نومك، في صحوك، في خطواتك القليلة مهرولًا وراء صمتك قائلًا: “هه هل دفعت ثمن حياتك؟” تتساءل أنت كفرد عابر هل أخذ أحد رأيك عندما رميت في هذا البحر الهائج أصلًا؟.. في الحقيقة لا يهم، ما يهم الآن هو أنك تدفع الثمن، لا تدري من أين حقًا لكنك تستشعر الحلقات التي تضيق عليك أكثر، تفكر في الخروج ولا سبيل لذلك، البقاء يعني فاتورة أكبر، النيران تلتهم منزلك الوحيد الذي لن تدفع فاتورته دهرًا، والقذائف تدك مدينتك، ويتربص الجلاد لك على حدود البلاد، ثم تنظر أين المآل وإلى أين؟

لا يهم إن كان ما أرمي له واضحًا لكني هنا أتحدث عن ضيق الأفق الذي يحكمنا والمتاريس التي نصبت في وجهنا أينما وليناه، المساحات الواسعة التي باتت تضيق علينا أكثر من قبل، وأكثر وأكثر، والحياة التي باتت تدفعك دفعًا للقدر الذي حاولت أن تكون بعيدًا عنه وأنت تصنع من أمانك المفترض سبيلًا لصنع فارق في اللعب الكونية التي تفوقك حجمًا، فلا الأمان منحك فرصة لتكون خيرًا ولا ذاك الموت كان لك خيرًا فضمك قبل الابتعاد، هل ترى هذا العالم الكبير جدًا والجميل جدًا والصاخب جدًا بأخبار الموت والجنون؟ هذا هو السجن الذي يسلم فيه السوري كل أوراقه الثبوتية ويوّقع “أنا إنسان هاهنا، أنا كان لدي حلم، أنا كنت أبحث عن كرامة، أنا بلا وطن”

مرّ وقت طويل ولكن!

لا أحد يمنح عنقه امتدادًا إضافيًا لتتسع رؤيته كما يظن حتى وإن شاء ذلك، تعال نرتب الأمر معًا، تبدو الحياة بعد ست سنين من الثورة فارغةتمامًا بعدما تحولت كل الأشياء المحببة إلى صور وبقيت الحقيقة الكاملة هي السواد الذي يبتلع الحلم الصغير ويبدده..
التوزع الجغرافي الذي بات منحصرًا في زوايا البلاد اليتيمة، والذي يزداد ضيقًا على ضيق، ويتحول من محَرر لنمارس فيه ثورتنا في البلاد كما نشاء إلى ثقل يجثم على صدورنا بكثرة الموت فيه وتوزع الرؤوس والسلطات.. إن فكرنا بالأمر على أنه أحقية اجتماعية أقصد أننا نتحدث عن مجتمع كامل بكل توجهاته ومغالطاته وتعقيداته هذا الأمر لا يقلل أبدًا من صعوبة الأمر منذ بدايته، لا يمكنك أن تكون ابنًا لهذا الحراك إن لم تصادف هذه النماذج بشكل مصغر في طريقك.. لم تكن تشكل محورًا ربما ولكنها اليوم تتمركز على حدود ملكك وثورتك وحلمك!
الوقت اليوم متأخر جدًا، متأخر لتحلم.. لتفكر.. لتثور.. لتصنع فرقًا، مؤسف أن تكون ولدت ثائرًا بعمر صغير جدًا بخبرات قليلة وبرفاق قلة، تجوب الشوارع المحتلة خائفًا لا تملك خطة ولا تتمكن من اصطناع فرصة ضئيلة لتزرع وردة حرية في دربك المعجون بالرهبة في مدينتك الأم التي تتحول مع الوقت إلى “زوجة أب ظالمة”، يبدو الفرق كبيرًا عندما تفتح عينيك الآن على كل هذا، عمرك الذي مضى والطريق الذي كان أخضرًا وتنوعت شعابه وألوانه، تفتحها على أحلامك الصغيرة التي نضجت الآن بتأنٍ ووحدة، وبمخزونك الفقدي العظيم!
مر وقت طويل جدًا ولم تعد الخيارات هي ذاتها، لم يعد إثبات الأمر ضروريًا لقد أصبحت محسوبًا على هذا الطريق ولو كنتَ بخيلًا فيه أو مجرد عابر عاجز، مر وقت طويل جدًا ولم تكن حجرة أساس ربما، أو أنك لم تكن موجودًا أصلًا، فقط صورة تمر في خيال العابرين في ذلك الطريق، عمر صغير كما ظننته فتح عينيك على عمرك الكبير الآن، الشوارع التي أحببتها وأحبتك وغنيت لها وفيها والتي أصبحت اليوم أسيرة تحت سلطة السلاح.. لا تدري أي سلاح بالضبط لكنه موجه نحو صدرك وحلمك بأحقية اقتلاعك من أرضك، أصدقاؤك الذين كانوا أجبن من أن تستند عليهم في أول الدرب وتركوك لكل ما هب في وجهك عاصفًا تصنف خياراتك وأفكارك وحيدًا، وأولئك الذين كانوا أجبن من أن يشاركوك الحرية بصوت مرتفع، فكان صوتك الوحيد ظاهرًا وواضحًا ومحروسًا بقدرة قادر! .. الطريقة التي رتبت فيها أولويات الوجع وشخوصه عندما كان الدرب هينًا جدًا ومحدودًا جدًا، لا داعي أن تفكر كثيرًا هي ميتة واحدة في سبيل واحد وإيمان واحد، كان هذا قبل أن يمر زمان القحط الطويل هذا، قبل أن تختنق بكل براميل الموت والكذب والإدعاء، قبل أن يصبح موتك مسببًا ومبررًا لتفكر ألف مرة، هل تغيّر الطريق حقًا أم أنني تائه وحسب؟
رغم كل الرومانسية المفرطة التي تعاملنا بها بادئ الأمر، والتي كبرت معنا منذ كنا صغارًا ونضجت اليوم كفكرة عظيمة مضيئة حقيقية رغم كل هذا الزيف، الثورة التي لا يمكن لنا أن نحيد عنها بعد أن صنعت منا هذا الشخص الذي لا يعرف أن يتبع أحدًا سوى إيمانه، الإيمان الذي أبقانا على قيد الكرامة طوال هذه السنين، الفكرة وحسب بأن التعب الذي يمسنا منها يدفعنا للهرب وقد يظن البعض أن هذا الهرب هو أصل التخلي عنها، لكنه في الحقيقة هرب من أنفسنا الحالمة إلى الأنفس البناءة التي تسعى لتغيرَ شيئًا على الأرض لا التي تتباكى على الأطلال ثم تغفو من جديد! .. الأنفس التي كانت صغيرة جدًا في بداية الحلم ولم تجد مركبًا ينقلها إلى الدرب بكامل اندفاعها، لكنها اليوم صنعت فُلكًا جديدًا يليق بهذا الحلم متوازنًا أكثر.. مسؤولًا أكثر.. حقيقيًا أكثر.. لا يشوبه تزييف ولا كذب .. أي أننا في توازن الأمر كي لا نكرر سقطاتنا واحدة تلو الأخرى، كي لا يصير ماضينا قليل الخبرة هو حاضرنا وغدنا، كي نخلق فرصاً جديدة بإمكانيات يمكن صنعها في هذه السنوات التي مرت وتمر دون أن نتباكى لألف يوم آخر، علينا أن لا ننسى ثأرنا الماضي ولا قسوة الذي مرّ، علينا أن لا نُضيع وجوه الشهداء والغائبين الحالمين، لكن نحن في معركة كسب ذواتنا اليوم فإما أن نكون على قدرها أمام كل هذه الرِماح الموجهة نحونا، أو نبقى محصورين في أماكننا الضيقة نوجه أنظارنا للماضي نعيد رسم يومنا بذات الطريقة وننتظر مستقبلاً مخالفاً .. وهذا والله أسوأ ما قد نفعله كثائرين!

ستسقط كل الوجوه التي ركبت على الثورة كما سقطت أعتى الديكتاتوريات والواجهات التي ادعت صلاحها وحكمتها وخيرها على مر سنين الصمت والقمع، سيسقط كل شيء وتبقى الفكرة الأصل أننا باقون هنا ولأحلامنا بقية ولا فناء لثائر ولا نهاية لثورة مهما طال الأمد فلنكن على قدر إيماننا بما يليق بها!

كيف تصافح الموت في الغربة!

يأتي عادة خبر الموت المفجع في هذه البلاد على شكل صدمة خرساء، تتبادلها مع أهلك بينما يحاول كل منكم تخبأة ما يفكر به وحده، صباح أمس أيقظتني أمي من كابوسي الذي يأتي إلي كل يوم بحلة جديدة وقبل أن أفرح بذلك أخبرتني بأنه “مشي الحال” توفيت، تفاجأت كأني لم أكن أحاول تهيئة قلبي منذ أول سنة في الغربة على هذا الأمر، كأني أريد أن تبقى كل الأشياء والأشخاص وحتى أعمار من فارقتهم كما هي في مكانها، جامدة في ذات النقطة التي ودعتهم فيها، بقيت سنين عمرهم السريعة تصدمني وكأني لم أكن أكبر هنا، وكأني لم أتجاوز العشرين بثلاث مراحل وأنتظر الرابعة وما خرجت من هناك إلا ابنة تسعة عشر، لكن حقيقة حتى لو كنتُ على يقين أنني سأفقدهم تباعًا فقد كان الأمر ثقيلًا كما كل مرة .. فقد أصبحت المدينة التي أحبها مليئة بالنعوات وبقبورهم المتفرقة على امتداد البلاد أو المنافي..

ليست الغربة أنك غادرت مدينتك وحسب، ولا أنك تقطن في منفى أقل ما يوصف بأنه موتك الحتمي الذي لم تعرف كيف تفِر منه حتى عندما أسقطك في الهاوية، الغربة كانت تلك الوداعات التي أطلقتها سريعًا وأنت تسافر مع الريح متعبًا ومجبرًا تلوح بيدك للمدينة وأهلها تعِدُهم بعودة قريبة، ثم تمر بك السنين في مكان واحد تحت نافذة مشرّعة على الريح تسرق منك عمرًا وأحلامًا أو ما يزيد..

الجميع على حافة الموت هناك، عقلي لا يصدق أنه سيعود يومًا إلى هناك ولا يجدهم، هناك حقيقة أخرى لا يصدقها عقلي “أنني لن أعود أصلًا” لا يهم، مؤخرًا لم يعد يعنيني شيء بالفعل حاولت التمسك بقشة النجاة الأخيرة وفشلت، مثل كل محاولات السنين الماضية، الآن أحاول تقبل فكرة أن أدفن في مقبرة أخرى غير مقبرة الشيخ محي الدين التي لطالما شعرت أنها جزء مني منذ ضمت جسد أسامة وجدتي وجدي وآخرين، ومنذ كانت صباح كل الأعياد في دمشق.. الآن أشعر أن جسدي متناثر على شكل شظايا متفرقة كما عائلتنا الواحدة التي أصبحت في كل منافي العالم، في كل بلد توجد مني قطعة، يجمعنا اسم وصوت أحيانًا وقلمّا تجمعنا صورة واحدة أو يد تتمكن من احتضان الشوق لحصر المسافة بيننا. كثيرًا ما يراودني شعور بأني أتوهم لا يمكن أن يكون العالم دنيئًا لتصبح كل تلك الوجوه التي اعتدتها جزءًا من يومي مجرد شاشة الكترونية في هاتفي، ثم أتذكر لقد مر وقت طويل بما يكفي لأتجاوز هذا الشعور .. يجب علي ذلك!

أنا هنا .. في هذا المكان .. الذي لا فرصة لدي لأحبه وأعلم يقينًا أنه لن يحبني قط .. لكني بكامل السلام والرضا أبادله كرهي صامتةً.. وأتابع ما يتعلق ببلادي بكل موتها وخرابها وحزنها .. وأحبها أكثر ..

من هذا المنفى .. من هذا الموت الحتمي .. هنا دمشق حيث أسماء الراحلين في قلبي .. حيثما شوقهم.. أودعهم وأكتب النعوات.. أقيم مجالس التعزية ثم أعزي روحي وصورهم داخلي وأشكر سعيّ، أخيرًا أغلق رأسي على كل هذا وأحاول النوم مكرهة!

خرجت ولم تعد..

يغلقُ أحدهم القضبان بمئة جنزير ومفتاح وقفل .. كأن الروح التي تقف خلفه تبدو قادرة على الهرب أو حتى محاولة تجاوز كل أولئك القتلة المؤقتين لتنجو ..

في الحقيقة لا يبدو أنها راغبة بالنجاة ..

خارج القضبان تبدو الحياة مألوفة .. حياة طبيعية جدًا .. يشتري الناس حاجياتهم .. يبيع آخرون .. يلعب الأطفال في أغلب حارات المدينة .. يتجادل سائق التاكسي مع الركاب .. يحكي الحلاق حكاية الخاتم العجيب في فم السمكة للمرة المليون .. تسير امرأة حامل في الطريق فيساعدها أحد الرجال في جرّ عربة ابنها .. تسمع صوتًا حادًا يطلقه أحد الأطفال المتذمرين داخل الحديقة في وجه أمه التي تخبره أن الوقت قد انتهى .. الأطفال جميعهم لا يفهمون لعبة الزمن مبكرًا ..
كانت طفلة ذات يوم .. وكانت لا تعرف عن الزمن شيئًا .. خلف هذه القضبان الباردة تعلمت أن تنسى ذلك الذي يسمى وقتًا كي يكف عن حرقها كلما مر .. حاولت أن تعود طفلة .. طفلة لا تدرك من زمنها شيئًا .. لكنَّ وجعًا ما .. وجع لم ولن يبرأ في جسدها يذكرها في كل مرة أنها تجاوزت ذلك الوقت .. أنها كبرت أكثر من اللازم .. وأن الساعات ستبقى سجنها حتى وإن رأت السماء مجددًا ..

تغفو ..

تبقى أصوات الأقدام في الخارج تدق ناقوس الخطر فوق رأسها .. هنا تعلمت أن تلعب لعبة الاكتشاف مع تلك الأصوات، هذا رجل غاضب يحاول تجاوز زوجته .. وهذه خطى زوجته الصغيرة المتململة .. هذا طفل يمشي حديثًا وأمه تركض خلفه كي لا تسرقه سيارة مسرعة … هذه خطوات عاشقَين يبدو أنهما يمتلكان وقتًا كافيًا للحب وعمرًا يكفي ليسيرا في كل شوارع الشام معًا … تذكرت أنها ذات يوم امتلكت مثل هذا الوقت معه، قبل أن تبتلعهما العتمة …      هي لا تدري إن كانت تسمع الأصوات حقًا أم أنها تهذي.. لكنها تعلم جيدًا أن هذه اللعبة أنقذتها من خطر الوقت وحسابه .. تُكمل حديثها مع نفسها .. تُحصي السيارات المارة فوقها .. كيف يمكن أن تكون الحياة جحيمًا وجنة في ذات البقعة يفصلهما خط أرض واحدة إلى هذه الدرجة؟!
يدخل السجان يوقظها من نومها .. تذهب للتحقيق .. ثم تعود .. هي لا تعود كاملة كانت تدرك أنها بعد كل رحلة تحقيق وتعذيب تمر بها تنقص جزءًا .. هكذا حتى تنتهي كلها هذا ما تعزي نفسها به دائمًا عندما تسخر من مصيرها: “وزني مو كتير كبير .. هانت لاخلص” .. ثم يعود لها ذلك الوجع في موضع ما .. في حرقة ما .. يفتح داخل روحها موتًا أحمرًا وهي على قيد الحياة ..
هذا السجن كان الفاصل الوحيد بينها .. وبين حلمها .. روحها .. صورته الجميلة في عينيها … صورتهما معًا .. عائلتها .. مستقبلها .. أخيها الصغير الذي أراد أن يصبح خالًا لأبنائها منذ كان في الخامسة من عمره .. بينها وبين آخر الأمنيات في حياتها أن ترى السماء للمرة الأخيرة كما أحبتها دائمًا .. قد يجبرُ هذا المشهد كل أيام العذاب التي مرت بها… هكذا تتخيل!
تغفو مجددًا .. يدخل السجان بعد ساعتين .. يناديها .. يركلها .. يرش الماء البارد عليها .. كانت قد اتخذت قرارها في أن تكسر هذه القضبان .. خرجت بروحها نحو ذلك العالم الذي لم يعد يعرفها والذي لم ينتبه لغيابها يومًا  .. خرجت لترى إن كانت الحياة تبدو مُنصفة بين جحيمها وجنتهم .. خرجت ولم تعد .. ولن تفعل!