منذ الخروج الأول الذي اعتقدنا أننا كسرنا فيه كل الأنماط التي تبنيناها بشكل فطري، واكتسبناها وراثة من أبائنا وحاراتنا الضيقة وعوائلنا المعقدة، لم نزل نتعثر بفتات من ذاكرة قديمة، أو ماضٍ لم ننجُ منه جيداً في وقت سابق، وآخر ما استطعنا التعامل معه بما يكفي لننجح بالتخلص منه.
نجاة من سطوة الـ لا:
بداية كان الأمر مرتبطاً فقط في أن تقول لا، “لا” في مقابلة النظام المجرم عندما يجبرك على الخنوع في وجه الرصاص. “لا” في مواجهة المجتمع الذي يكسرك كي لا يخسر. “لا” في مواجهة الخيبات الكبرى والخسارات المتلاحقة التي ستمنّ عليك بها الحياة تباعاً، من أول انشقاق نحو الحرية، وحتى كل اغتراب وحصار وموت يلتصق بها زوراً.
لم تكن المعارك في ذلك الحين محطّ تقييم، أي أنك لم تكن تستطيع أن تكسب سنتميترات زائدة بعض الشيء لتنظر نحو آخر الشارع وتلتمس خبراً يُنبئكَ قبل انزلاق رصاص إلى صدر صديقك في المظاهرة، أو أن تمتلك فراسة الناظرين نحو زوايا الأبنية لتستطيع أن تجد انعكاس عدسة القناص في عينك لتهرب منها. كان الأمر مفاجئاً لذلك لم يكن هناك ضرورة لتبحث عن إجابات. الموت، الموت هو النهاية المتوقعة فقط. والركض هو السبيل للتخلص من هذه النهاية، أما فرصة الاعتقال فهي ضمن الاحتمالات من الدرجة الثالثة، لأنك في المنتصف. المنتصف المغمور بين آلاف الماضين نحو الحلم الأكبر.
أما المعركة مع أصوات الـ “لا” الكثيرة فقد تسمعها من والدتك في المطبخ وأنت تشرب قهوتك الصباحية محاولاً استدراك الوقت قبل أن تكتظ مكاري المدينة بالطلبة والموظفين والهاربين “برضايي عليك يا أمي بلا وجع راس”. ستسمعها من خالك المؤيد الذي يرى بما تحلم به “فورة وعلاك مصدي”. ستراها في عيني عمك الذي لم ينسَ مرارة الاعتقال منذ عشرين عام بعد وهو يخبرك هامساً “رح يغرقوكم بالدم لك عمي”. ستكون ثقيلة عندما تبدأ بنبرة أخيك العالية وهو يحلف بكل ما يؤمن به أنه سيخرجك من كل هذا الانخراط الأعمى ليريك الحقيقة، حقيقة أن لا شيء من كل هذا سيجدي نفعاً، ولا حتى موتك في سبيل الثورة!.
أما الـ “لا” الأخيرة، فسأتركها للزمن البعيد لأنني حتى اللحظة لم أستطع النجاة منها، ولو في محاولة جادة لمواجهة كل ذلك.
نجاة بالتخلي:
مع تراكم الارتباطات والمسؤوليات، ومع الشعور الدائم بأن ما تملكه سيتسرب منك عاجلاً أم آجلاً. تبدأ مرحلة جديدة في مواكبة الحالة التي تريدك أن تنهزم لكنك تقاومها. الأمر تماماً يشبه السفينة التي تقف في عرض البحر مليئة بالحمولة غير المجدية والتي توشك أن تخسر ثباتها ضمن العاصفة، فترمي ثقلها بالتوازي. تسعى لتصير متخففاً، ترمي بثقل معقد لم تكتسبه وحدك، وتتخلى عن فكرة كنت قد اعتنقتها دون أن تثبت أقدامها فيك بما يكفي. تترفع عن مراقبة الناس، وتترك العلاقات التي تكاد تبتلعك اتساعاً دون جدوى أو فائدة، ومنها مقبرة التواصل الاجتماعي التي تجعلك مهووساً بتقليب الدوائر المضاءة، والعمل على مسح ضوئي شامل لكل كلمة كتبها فلان، وكل صورة نشرتها فلانة. والكثير من الشتائم التي تكسبك وقتاً للتسلية وأنت تقرأ تحليلات صديقك التافهة على أمر لا يسمن ولا يغني من جوع، تتخلى عنها ببساطة بأن تغلق كل حساباتك دفعة واحدة وتترك نفسك هائماً بهاتف لا يؤرقك بإشعاراته وضوئه الذي لا ينطفئ . هكذا حتى تصبح كائناً يستطيع السير دون أن يوقعه وزن زائد.
بالمناسبة، الوزن الزائد بالحقيقة هو آخر ما يمكنك التخلي عنه وإن عملت على ذلك. هذه إحدى المعارك التي تعرف أنك إن فشلت فيها ستعيد الكرة مراراً، ببساطة هكذا، فلا أحد يشترك معك في هذه المعركة سواك والهزيمة هنا تتميز بفردانيتها.
نجاة بالمصادفة:
المصادفة هي التي تجعلك تواجه حقيقة الفشل وهذا أكبر ما يجعلها مدعاة للسخرية والخوف معاً، أي أن إدعاءاتك الملونة بالقدرة على تجاوزك ما مضى، وقدرتك على امتلاك زمام ما سيأتي هي فشل مغطى بالسكر، حلوى لم تَكشِف عن ما بها بعد.
هنا، عندما تدرك ذلك، ستكتشف أن حروبك في النجاة على مدار السنين الثمان الماضية هي مثل لعبة القط والفأر التي ستهزمك في نهايتها قشرة موز لم تكن تلقي لها بالاً، لكنها ستوقعك!.
وعلى هذا تسبقنا الحياة بسنين طويلة، ثم نقاوم سرعتها بمحاولات ركض، ونقع آلاف المرات، لا نستطيع أن ننهض دون أن نفقد رغبة جديدة منا. ومنها حتى يصير نهوضك الأخير محض تخيل عابر وصورة باردة من بقاء حتى أنت.. لا تعرف لماذا عليك الدفاع عنه؟
نجن لم ننجُ من قال أننا فعلنا؟