ربما نمارس حقنا في الحياة إشفاقاً على شخصنا الذي تاه عنا في معارك الخمس سنين الماضية .. ربما نحن نتمسك بحبالها كحقيقة مجردة ومطلقة على هذه الأرض لا يمكننا تجنبها .. من الغرابة أننا حتى هذا اليوم لم يزل الموت يؤذينا، ولم تزل دموعنا تسقط كعادتها منذ أول وقع وجع وموت صادفناه، قلبنا الذي أصبح فتاتاً يقتات على ما رآه سابقاً، تعصره عن آخره أيادي الصارخين اللاعنين والشامتين، هذا العالم مثقوب من رأسه وينزف دائماً، يأخذ كرسياً وينصبه فوق أجسادنا المحترقة، هذا العالم يجثو فوق موتنا ضاحكاً. وتباركه يد السماء.
يتناسب ثقل الوقت في مدننا الجديدة الغريبة مع التخلي الذي فُرض علينا في الأصل بعيداً عن ذلك الموت الذي لا ينفك يلاحقنا.. لنكتشف أننا في فاصل الانتظار تخلينا عن نصف ما نحلم به .. ونصف ما نؤمن به .. ونصف ما اعتقدنا أننا نحبه ولا يمكننا العيش دونه .. نصف عمرنا … وكل روح عظيمة ركناها في ذواتنا كي نكونها يوماً ما … التخلي المرتبط فينا عند أول اصطدام بالخروج من حياتنا ودائرتها الضيقة .. لعالم أكثر اتساعاً بالوجع ومعطياته ولوازمه وأضيق بنا وباسمنا ولنا. أيضاً سيمر وقت آخر من البؤس حتى تؤذينا المنافي أو بلادنا المشتعلة موتاً فتجعلنا نتتخلى عن الأنصاف التي كنا نظن أننا أنقذناها من الهلاك .. ويصبح كل ذاك التعب اعتياداً .. بعد أن فرقتنا السبل عن ديارنا ..فأصبحنا نتشدق على الوطن وباسمه رغم بعدنا المقيت ونتحدث عن بطولاتنا ومفاتيح بيوتنا التي تتدلى من أعناقنا ..دون أن ندرك شيئاً يشبه أن ما يشد على حنجرتنا ويتعبها هو رغباتنا الكثيرة التي اضطررنا للتخلي عنها عندما مر الموت بنا باسماً ذات يوم .. أنفسنا التي لا تشبه سوانا والتي ضاعت بين خيام الهروب وقهر اللجوء وكثافة الموت … أرواحنا التي عافت كل شيء وماتت قبل أن يكتب الموت لها فعلاً .. واتخذت مقعداً في السماء حيث لا يُدفع أجر المكان دماً كما الحال على أرضنا ..
في المرة الأخيرة التي حدثتك فيها كنا نتبادل آخر موت معاً .. حيث أخبرتك عن كثافة الانتظار وتعبه وعن جنون الشوق بي وعن الحب الذي لن ينتهي يوماً. عندما أعود لذلك اليوم أبتسم بسذاجة .. أنا التي أعرف تماماً كم الأشياء والمواجع التي شكلت هذا الصمت داخلي .. وأنا التي أدرك نهاية كل الأحلام في حياتنا حتى تلك التي دافعنا عنها باستماتة حتى قضت علينا أخر الأمر …الفارق الوحيد أننا أُنهكنا بتلك المعارك عن آخرنا .. فلم نعد قادرين على خوض غيرها ولم ننجح في كسبها أصلاً.. على مبدأ أن “الانسحاب أوالتردد في المعركة هو هزيمة وأن الانتصار في الثبات حتى ولو كانت الخسارة فادحة” قد لا نستطيع تطبيقه على كل ما في الحياة .. فقلبي في غياهب الموت الذي مر به سقط عندما قرر إنهاء تلك المعركة والمضي عنها .. وقلبك هُزم عندما تخلى عن آخر البنفسج في روحي …
لا يمر خاطرك بي مكتملاً في الأيام الأخيرة .. فأنا أقاسم الأخرين خبز حياتهم واستقرارهم وأتابع تفاصيلهم الدقيقة والمحكمة .. وأتوه في تفاصيلي الكبيرة عاجزة عن ترتيبها .. أنا التي لا تتسع الأرض لي ولا لحلمي ولا لوطني الذي أحمله معي كبيراً واسعاً في قلبي الصغير جداً .. بينما أراهم يقتاتون على صمتي وابتسامتي من قصص الحياة وتفاصيل العيش ما يغنيهم عن سماع أبسط أمنية قد أقولها لهم “أن أنام ولو لمرة على سريري في وطني رغم ضجيج الطائرة فوقي وكل الموت هناك”. يبدو أنه في أخر الأشياء لا يسقط الثمر عن الشجر وحسب .. ولا يوصلنا السرداب لحكم الموتى والعابرين .. بينما يمتلئ الموت بالعبر التي تربك حضورنا وشتاتنا .. بل إن الحياة التي نرسم خطها مبدأياً كما نريد هي على “كف عفريت” في الحقيقة .. وإن تأخرنا في إدراك ذاك التأرجح سنتأخر في تحصيل بعض منها .. وكلما تجاوزنا وقع التأرجح في نفوسنا وحياتنا زادت بؤرة الضياع في روحنا دون أن نعرف ذلك …
فبين أن تتمسك بحلمك وقضيتك الكبرى … وبين أن تحاول الحفاظ على ما تبقى منك ناجياً من كل ما مر به .. وكل ما خلقته باسمه الظروف. كلما مر وقت أكثر .. ازددتُ بعداً .. واتسعت الوحدة بي أكثر .. وضاق الناس بصمتي وهروبي .. وأرهقتني مسافات أختلقها بيننا .. ما يمر الآن يا صديقي يجعلني أرسم خطاً واحداً للخلاص لا مفر منه أبداً .. وبينما أكتب عن كل ما يخطر لقلبي أن يتوه به وكل الهالات التي تختلقها عيني تحتها في محاولة إنهاك تافهة .. أبتسم ليلاً في عتمتي الطويلة مع صور جداري المنهَكة بوجوه الشهداء والحالمين البائسين .. أحدثهم عن ضياعي العظيم ووحدتي المكتملة بهم .. أحدثهم كيف سأمضي عن كل شيء قريباً .. وكيف سأختتم التخلي والخلاص باللاشيء .. هكذا كأن الحلم لم يكن يوماً موجوداً .. وكأنني أنا كنت ابنة هذا الموت المتسع داخلي منذ الأزل .. ثم أكتب لي ولهم على سقف السماء التي ستهوي علينا قريباً: “على بُعد تلك الأرض موتٌ يكبر فينا رغم الحياة حولنا”..
#جنونيات_بنفسجية