حلم ضيق كمنفى ..

ربما نمارس حقنا في الحياة إشفاقاً على شخصنا الذي تاه عنا في معارك الخمس سنين الماضية .. ربما نحن نتمسك بحبالها كحقيقة مجردة ومطلقة على هذه الأرض لا يمكننا تجنبها .. من الغرابة أننا حتى هذا اليوم لم يزل الموت يؤذينا، ولم تزل دموعنا تسقط كعادتها منذ أول وقع وجع وموت صادفناه، قلبنا الذي أصبح فتاتاً يقتات على ما رآه سابقاً، تعصره عن آخره أيادي الصارخين اللاعنين والشامتين، هذا العالم مثقوب من رأسه وينزف دائماً، يأخذ كرسياً وينصبه فوق أجسادنا المحترقة، هذا العالم يجثو فوق موتنا ضاحكاً. وتباركه يد السماء. 

يتناسب ثقل الوقت في مدننا الجديدة الغريبة مع التخلي الذي فُرض علينا في الأصل بعيداً عن ذلك الموت الذي لا ينفك يلاحقنا.. لنكتشف أننا في فاصل الانتظار تخلينا عن نصف ما نحلم به .. ونصف ما نؤمن به .. ونصف ما اعتقدنا أننا نحبه ولا يمكننا العيش دونه .. نصف عمرنا … وكل روح عظيمة ركناها في ذواتنا كي نكونها يوماً ما …  التخلي المرتبط فينا عند أول اصطدام بالخروج من حياتنا ودائرتها الضيقة .. لعالم أكثر اتساعاً بالوجع ومعطياته ولوازمه وأضيق بنا وباسمنا ولنا. أيضاً سيمر وقت آخر من البؤس حتى تؤذينا المنافي أو بلادنا المشتعلة موتاً فتجعلنا نتتخلى عن الأنصاف التي كنا نظن أننا أنقذناها من الهلاك .. ويصبح كل ذاك التعب اعتياداً .. بعد أن فرقتنا السبل عن ديارنا ..فأصبحنا نتشدق على الوطن وباسمه رغم بعدنا المقيت ونتحدث عن بطولاتنا ومفاتيح بيوتنا التي تتدلى من أعناقنا ..دون أن ندرك شيئاً يشبه أن ما يشد على حنجرتنا ويتعبها هو رغباتنا الكثيرة التي اضطررنا للتخلي عنها عندما مر الموت بنا باسماً ذات يوم .. أنفسنا التي لا تشبه سوانا والتي ضاعت بين خيام الهروب وقهر اللجوء وكثافة الموت … أرواحنا التي عافت كل شيء وماتت قبل أن يكتب الموت لها فعلاً .. واتخذت مقعداً في السماء حيث لا يُدفع أجر المكان دماً كما الحال على أرضنا .. 

في المرة الأخيرة التي حدثتك فيها كنا نتبادل آخر موت معاً .. حيث أخبرتك عن كثافة الانتظار وتعبه وعن جنون الشوق بي وعن الحب الذي لن ينتهي يوماً.  عندما أعود لذلك اليوم أبتسم بسذاجة .. أنا التي أعرف تماماً كم الأشياء والمواجع التي شكلت هذا الصمت داخلي .. وأنا التي أدرك نهاية كل الأحلام في حياتنا حتى تلك التي دافعنا عنها باستماتة حتى قضت علينا أخر الأمر …الفارق الوحيد أننا أُنهكنا بتلك المعارك عن آخرنا .. فلم نعد قادرين على خوض غيرها ولم ننجح في كسبها أصلاً.. على مبدأ أن “الانسحاب أوالتردد في المعركة هو هزيمة وأن الانتصار في الثبات حتى ولو كانت الخسارة فادحة”  قد لا نستطيع تطبيقه على كل ما في الحياة .. فقلبي في غياهب الموت الذي مر به سقط عندما قرر إنهاء تلك المعركة والمضي عنها .. وقلبك هُزم عندما تخلى عن آخر البنفسج في روحي …

لا يمر خاطرك بي مكتملاً في الأيام الأخيرة .. فأنا أقاسم الأخرين خبز حياتهم واستقرارهم وأتابع تفاصيلهم الدقيقة والمحكمة .. وأتوه في تفاصيلي الكبيرة عاجزة عن ترتيبها .. أنا التي لا تتسع الأرض لي ولا لحلمي ولا لوطني الذي أحمله معي كبيراً واسعاً في قلبي الصغير جداً .. بينما أراهم يقتاتون على صمتي وابتسامتي من قصص الحياة وتفاصيل العيش ما يغنيهم عن سماع أبسط أمنية قد أقولها لهم “أن أنام ولو لمرة على سريري في وطني رغم ضجيج الطائرة فوقي وكل الموت هناك”.  يبدو أنه في أخر الأشياء لا يسقط الثمر عن الشجر وحسب .. ولا يوصلنا السرداب لحكم الموتى والعابرين .. بينما يمتلئ الموت بالعبر التي تربك حضورنا وشتاتنا .. بل إن الحياة التي نرسم خطها مبدأياً كما نريد هي على “كف عفريت” في الحقيقة .. وإن تأخرنا في إدراك ذاك التأرجح سنتأخر في تحصيل بعض منها .. وكلما تجاوزنا وقع التأرجح في نفوسنا وحياتنا زادت بؤرة الضياع في روحنا دون أن نعرف ذلك … 
فبين أن تتمسك بحلمك وقضيتك الكبرى … وبين أن تحاول الحفاظ على ما تبقى منك ناجياً من كل ما مر به .. وكل ما خلقته باسمه الظروف.  كلما مر وقت أكثر .. ازددتُ بعداً .. واتسعت الوحدة بي أكثر .. وضاق الناس بصمتي وهروبي .. وأرهقتني مسافات أختلقها بيننا .. ما يمر الآن يا صديقي يجعلني أرسم خطاً واحداً للخلاص لا مفر منه أبداً .. وبينما أكتب عن كل ما يخطر لقلبي أن يتوه به وكل الهالات التي تختلقها عيني تحتها في محاولة إنهاك تافهة .. أبتسم ليلاً في عتمتي الطويلة مع صور جداري المنهَكة بوجوه الشهداء والحالمين البائسين .. أحدثهم عن ضياعي العظيم ووحدتي المكتملة بهم .. أحدثهم كيف سأمضي عن كل شيء قريباً .. وكيف سأختتم التخلي والخلاص باللاشيء .. هكذا كأن الحلم لم يكن يوماً موجوداً .. وكأنني أنا كنت ابنة هذا الموت المتسع داخلي منذ الأزل .. ثم أكتب لي ولهم على سقف السماء التي ستهوي علينا قريباً: “على بُعد تلك الأرض موتٌ يكبر فينا رغم الحياة حولنا”..

#جنونيات_بنفسجية

صوتك الذي يمزقني ..

نرتكب حماقة العيش برضا تام بينما نمارس سخطنا نحوه كل صبح .. وكل يوم …نرتكبها بخوفنا من التوجه نحو النهاية .. بإدعائنا أننا أقوياء جداً .. وأننا ضد الخلاص ودونه ..

نرتكب حماقة الابتسامة وكأن الذي ندفنه داخلنا لا يسمى وجعاً .. بل شيئاً عابراً لا مرفأ له على هذه الأرض السعيدة التي لا نرَ منها إلا قبحها .. نمارسه بحجم خيباتنا ومواجعنا  … بحجم كل الارتجافات التي نمارسها وحدنا والدموع التي تغرقنا ليلاً .. والآهات والتنهدات التي يبتلعها صدرنا كي لا يسمعها المارون بنا .. فيبادلوننا لوماً أو وجعاً ..

نعم نحن نهرب منا .. نحونا .. نهرب من كل الخطوط التي توصلنا لنقطة الوجع تلك .. وفي ذات الوقت .. نرسمها .. نرسمها بريشتنا النازفة من دمائنا ..

لم يمر في خاطري يوماً أن أكره الشام .. أو أن أشعر بسخط عابر نحوها إلا حين أتذكر المعتقلين فيها ..وأذكر أنني قاسمتهم ذات المكان أعلاه بينما هم يلوكون الموت الذي لا يتقدم نحوهم بخطوة سلام أخمص قدمي .. دون أن تؤنبني ذاكرتي .. ودون أن تشتعل قدماي من ضرب الـ “كرباج” السافل الذي يفتت أعصابهم وأقدامهم .. دون أن أتحسس وجهي وأمسح دمائهم .. دون أن تتعبني أعصاب يدي مجدداً من محاولة “شبح” ما .. دون أن تؤلمني أذني من كم التدنيس والتحقير الذي يصبه المحقق وأمثاله فيها .. ودون أن أتفقد عيني .. يدي .. قدمي .. وقلبي!

يعاندني صديقي الجميل الديري الذي لم يزر الشام إلا مجبراً وكانت زيارة مقيتة إلى سراديبها المعتمة والعفنة في سردتي عن الكره الذي أمارسه على الشام كلما فاض بي وجع يشابههم .. فيقول لي: “الشام هي الشام”.. ولا مبرر لكرهها أو لعنها أياً يكن السبب.. أما عنادي الذي قد يطول لساعات كثيرة في محاولتي لإخباره أنها مؤذية .. مؤذية عندما سكتت عن مواجعهم وآلامهم وصرخاتهم وآناتهم .. مؤذية بينما كانت تدفعنا لممارسة الحياة والموت يشاركهم قوت يومهم ولحمهم .. فلن يجدي .. لن يجدي مع من يعرف أن الوطن لا باع له بكل هذا الموت .. لا يد له بكل هذا القهر .. لكننا  باسمه نُذبح ونغتصب ونُقتل ونُهان .. ونُنفى في أصقاع بعيدة جداً لا تعرفنا .. ولا نعرفها ..

البلاد التي حاربنا باسمها بأصواتنا الضعيفة الهشة والخائفة .. أصواتنا التي كانت وحيدة بادئ الأمر ..مرتجفة من تمردها على حاكم الأربعين موت ومجزرة في البلاد .. أصواتنا التي حاول أهلنا دائماً أن لا تتجاوزنا وأن يزرعوا فينا “الحيطان الها آذان”  … كانت مرتفعة وهزت مضجعه .. حتى استشاط غضباً وأحرقنا كما أحرق الوطن الذي دفعنا لأجله ولم نزل ندفع كل ما فينا وكل ما نحب!

أنا في الحقيقة لم أختبر شعور أن أتحسس جدران موت من سبقوني .. ولم أعرف أن تخثر الدم على جدار الزنزانة يعني تاريخاً طويلاً .. وأنني عندما أتلمسه سأسمع صرخات مؤلمة ذابحة في أذني .. وأن قلبي لن يكف عن الارتجاف كحاله الآن … أنا لم أجرب كيف يتمكن أحد منهم التنفس جيداً في غرفة لا تتسع لي ولا لصوتي .. ويمارس أحدهم عقوبة التعتيم كما يشاء لا بناء على رغبتي بحب ذلك .. لم أفهم معنى أن تكره في الداخل كل ما أحببته بنفسك .. وكلما تم إيذاؤك فيه لتتحقق سادية سجانك الذي سيطربه صوت ألمك … لم أجرب أن أحفظ الأصوات والوجوه لأختبر ذاكرتي .. آخر ما قد يعول عليه في حرب الموت والتعذيب هناك .. وكل ما يتم حرقك به .. ذاكرتك .. بشخوصها .. ومواقفها .. بأحبائك .. ولحظاتك ..وأحلامك .. بثورتك التي تحاول حمايتها من سياطهم ودناءتهم ..

إلا أنني جربت أن أعيش بين كلماتهم لتؤنسني في عجزي وبعدي وشتاتي .. حتى تجعلني ألعن الحياة طويلاً ..وطويلاً جداً !  .. وأكره تذمري ورغباتي وكلماتي وحروفي .. أكره كل شيء لا يشبه حجم الذي عاشوه .. أكره رفاهيتي في العيش .. أكره قدرتي على الضحك ولو كان صوتي خافتاً .. أكره هذا الوجع الذي يصب في روحي تقصيراً وعجزاً ..

..أكره كل هذه الحياة التي سُمِيَت عليّ كلعنة …

لنقول مجدداً كأن قولنا لم يزل في أوجه #المعتقلون_أولاً  ولنكن نحن آخر الواصلين لدربنا ..

المدن البائسة وداعاً ونفياً..

صباح المدن الذابلة في عيوننا .. صباح السائلين الهامسين: “وين لمعة الشام بعيونك راما؟!”..
لا أدري .. يبدو أنها سقطت مني سهواً في انتقالنا الأخير ..
لم يكن انتقالاً في الحقيقة .. تستطيع تسميته هجرة .. نزوح .. انسحاب .. ربما بضع موت ..
يبدو أنها وقعت مني بينما كنت أرتب بعض الأوراق التي خرجت سالمة من منزلي .. بينما كنت أبحث عن ذاكرتي .. في ذات الوقت الذي اضطررت فيه للمشي خطوة أكثر اتساعاً نحو منفى معتم للغاية ..
هل تعرف أنني كنت أظنه قاتماً أكثر ؟!
لقد تخيلته أسوداً جداً .. وكئيباً .. ومليئاً بالرمال حتى .. لدرجة أنني كنت أفكر أن حذائي الرمادي الذي اشتريته من الجسر الأبيض قبل اقتلاعي من دمشق لن يتلاءم مع رماله الحارقة ..
لا تضحك أرجوك!.. فأنا فعلاً عندما سمعت صوت عصفور يغرد في الخارج لأول مرة استهجنت الفكرة وسألت قريبتي: “هل هذا عصفور حقيقي أم أن الصوت خرج من هاتفك؟” ..
الجميع ضحك علي حينها لكني لم أكن أكذب .. كنت أظنها كذلك ..
لذلك حاولت أن أحرس الشام وبساتينها وجمالها ودفئها داخلي كثيراً ..كان الأمر صعباً للغاية ويبدو أني فشلت .. في أول ازدحام عند الحدود اللبنانية .. وفي الطائرة الصغيرة التي نقلتني إلى هنا .. يبدو أنني في كل محطة كنت أضيع مني شيئاً .. وما أكثر المحطات والبيوت والأشخاص الذين مررت بهم .. ومروا على قلبي على شكل نار اغتالت بعض ابتساماتي المتبقية التي سرقتها سرقة من دمشق ..
سأطلعك على أمر آخر .. دائما عليك أن تثق بأحاديث قلبك عن المدن .. فهو لا يكذب .. هذا المنفى ممتلئ عن آخره .. عمارات وزراعات وعمل دؤوب وانتقال إلى مكان أفضل لكن جوفه صحراء قاحلة .. مليء بالرماد .. لا يشبهني كما قال لي قلبي ذات سفر ودمع واحتراق .. هذا البلد يعرف كيف يقيدك ويعرف كيف يفتح لك الباب للجنة أيضاً في الوقت نفسه ..
تماماً كما كنت أكره بيروت إلا أن قلبي كان يهمس لي دائماً هي ابنة دمشق وفيها منها الكثير .. ووجدتني فيها مراراً .. في كثير من الصباحات التي تقصدت المشي فيها وحدي .. شعرت بالشام .. شعرت بها كثيراً ..
لكن العلة في بُعدنا دائماً .. وهذا ما لا نستطيع التحكم به أبداً ..
آه صحيح .. كنا نتحدث عن دمشق .. لم أضُعها تماماً .. هي بوصلة قلبي .. لكن قلبي منهك .. منهكٌ على ما يبدو من قسوة الفراغ والضياع .. من كل هذه الأيام الثقيلة التي تتخمه قهراً وشوقاً .. من كل فقد يملأُه إحساساً ووجعاً ويقيده بسلاسل الوقت مطولاً .. قلبي منهك من مرور الوقت ومن ضيق المنفى ومن اتساع جرح الشام باسمنا ومن شتات الثورة وكثافة الموت فيها .. قلبي منهك لأنني وحدي ولأني أحب ذلك .. منهك لأني لا أستطيع لمس السماء ولا الجلوس على غيمتها واستنشاق القمر كـ جاردينيا يتيمة سابحة في فضاء متسع … منهك لأنني أتربع في السماء كنجمة وأسقط كل يوم منها لأرتطم بالأرض .. يوجعني ارتطامي ذاك .. وتوجعني عيني كلما تطلعت للسماء مجدداً وكررت التجربة ..
هل تعلم؟!
المنافي ليست ضيقة .. لكننا نحن ضيقون بها .. محدودون .. مرابطون على أحلامنا المركونة في بلادنا .. نحن من نقف بين حقيقة الوجود أو الموت .. ونختار الموت خارجها .. الخيار سيء جداً لكنه الوحيد الذي نستطيع ضمانه .. نستطيع ضمان موتنا في الحياة قبل أن يبتلعنا سواد المنفى وقسوته ..
نحن نقول عند أول خطوة فيه: “أنا ميت فلتفعل ما تشاء!!”..
#جنونيات_بنفسجية

“وعتم قلبي”..

عزيزي…

يقولون أن الليل يُحرض الذاكرة على البوح .. ويقولون أيضاً أن العتمة كلما اتسعت حولك كلما استطعت تَلَمُسَ فضاء الحزن داخلك أكثر .. الطريق الذي أسير فيه منذ ساعات لم يتغير .. له ذات العلة في الامتداد والفراغ .. الصحراء حولي صامتة .. والسماء تتحايل لتظهر منفصلة ولو بغيمة يتيمة عن سواد هذه الأرض… أما أنا هنا فقد توحدتُ مع ذاك الاتساع وعدتُ لأرتبُ شعوري اتجاهه  ..
لماذا يرتبط هذا الشعور بكمية من الوجع الحقير الذي يفتت قلبي؟!
لم أصدق ابنة عمي عندما أخبرتني أن الله يغار على قلبي .. لأنها لم تجبني عندما سألتها: “لماذا يسمح لي بالتعلق بالآخرين إذن ويجعلني أشعر بلوعة الفقد هكذا؟”
لم أفهم ذلك الأمر لذلك لم أصدقه أبداً .. هو لا يفعل ذلك لهذا الشيء .. هناك حتماً سبب أكبر من كلماتهم وقناعاتهم السطحية .. لذا أصبحت مع كل وجع يمر بي .. أقف في انتظار مبرر يخفف حجمه فيني .. وما وجدته قط!
كان الفقد والموت هما أصل الحكاية .. وبعدها أصبحت أخجل من تكرار حكايتي وموتي المرير ووحدتي .. فمع كل موت جديد .. كنت أسأله ما الحكمة؟! ولا أصل لشيء ..
سمعتني أمي ذات يوم أتحدث إليه بصوت مرتفع .. أخبرتني أن كلمة واحدة ترميني في قعر جهنم وعلي أن أتأدب في الحديث مع الله وأنتبه لكلماتي فلا أكفر ..
من قال لها أنني كنت أكفر؟!
كنت أحدثه وأسأله فقط .. كنت أنتظر الإجابة لا أكثر .. وقتها تعلمت ألا أحدث الله بصوت مرتفع .. وأن الذين يتلصصون على كلماتنا مع الله .. يتلصصون فقط ليفتحوا باباً كبيراً على أرواحنا .. ليعرفوا خطوط الوجع فينا .. ليقوموا بترميمنا كما يظنون فيمسحوا جراحنا على أنهم يعرفونها .. ولكن دون جدوى ..
كنت في كل تجربة أجلس على قارعة حزن جديد … أنتظر حكمة الأشياء .. كنت أراقب أخر السراديب في روحي وهي تغلق أبوابها في وجهي .. بينما يطل منها ضوء خافت جداً .. يريد مني أن أستمر ..
بعدها اعتدت نوره وحده .. وأصبحت أخاف من أي ضوء أكبر منه .. أصبحت أكره الشمس أكثر .. وتؤذيني كل الأنوار المضاءة في حياتنا .. كنت أحب أن تقطع الكهرباء لوقت طويل .. العتمة أكثر فصول الحكاية رأفة بنا .. لها يد تعرف كيف تحتضننا حينما نكون وحدنا .. كانت الدموع في هذا الليل مثلاً لها مكانها في هذا المدى ..
في النهاية لم يأتِ من السرداب ذاك إلا ريح تفتك بي كل مرة وترسل لي أوجاعاً متنوعة ما أنزل بها الحزن من سلطان .. لكنها تعلّم قهراً في قلبي ..
كثيراً ما سألته لماذا قلباً كهذا؟!
لماذا قلباً يحتوي كل أوجاع الآخرين ويشعر بهم؟
لماذا أبكي شعور أم الشهيد وأخت المعتقل وأحترق بذلك؟
لماذا يمسني كل موت كأنه يخصني هكذا؟
لماذا أترقب الأسماء لأحصيها وأبكيها في ذات الوقت؟
لماذا أحتفظ بالأشخاص في روحي وذاكرتي بكافة التفاصيل رغم آذيتهم؟
لماذا أتخلى بسرعة عندما أتمكن من الركض وحدي؟
ولماذا لا يخصني النوم بساعات أطول؟
ولماذا دموعي عصية هكذا!!
مضت كل هذه السنين وكنت في مكاني نفسه .. نفس الوجع .. نفس التخلي .. نفس العجز وهكذا … حتى سلبية الأحداث حولي .. والتي دفعتني للجنون والقيام بأي تهور فقط لأثبت لروحي أن هناك متسعاً لي في هذا العالم وعلي صنع شيء ما … كانت عبارة عن وجع جديد وحسب وعجز آخر أصبه في قلبي ..
كنت أحس بالذنب اتجاه كل المقهورين في هذه الأرض .. إذما ابتسمت ذات يوم مع صديقتي … أو لأن أخي احتضنني بعد عودته من السفر مطولاً .. أو همس الآخر لي في أذني أنه يحبني كثيراً .. أو لأن أختي باتت تشعر بوجودي حقاً موخراً ..
كنت أشعر بدناءتي بينما يعيش العالم الآخر حزنه .. أبتسم لفرحة ضئيلة مرت بي كهذه .. فأضاعف الشعور نحو الأشياء بشراهةِ مفتقدِها .. وأعود لذات الحكاية من جديد ..
الليل هنا كثيف ومليء بالأشياء التي لا مفر منها .. أو لنقل مليء بالكثير من الأمور التي لا أود الهرب منها .. فتثقلني خيبة الراحلين .. وأتوافق مع وحدتي كل مرة أكثر ..
كنت أريد مصارحتك بأنني كفرت بكل شي .. ولم يعد هناك ما يجعلني أتأمل نهاية فاضلة من كل بداية جميلة تأخذ حيزها في حياتي ..
مرة أخبرتك أن خسارتنا لشخص سيء يسيء لقلبنا أهون ألف مرة من قدر يجعلنا نفقد أفضل الأشخاص لقلوبنا .. فالثاني مؤلم لدرجة أن لا شيء في العالم سيربت على هذا الألم .. لا الأمنيات ولا الدعوات ولا الدموع .. وكثيراً ما افتعلها الموت وصنعتها الغربة بي في خيار الفقد الاضطراري .. حيث أنني أعجز حينها عن التخلي والهرب ببقايا ذاكرتي .. هذا المكان يربطني بوجعه الأبدي .. حيث لا خلاص .. لا خواص!

#جنونيات_بنفسجية

“لحن مجروح” …

في صبح العيد الأول كنت أحاول التمسك بفكرة التبسم غصباً وكانت محاولتي بائسة للغاية ..

في صبح العيد الثاني كنت أجامل الفجر في أول طلوعه وأتصور معه “سيلفي” حالم وعيوني تُطل منهكة خلف ضوئه المعتم ..

في صبحه الثالث كنت أمارس التنفس بضيق دون أن تأخذ ذرات الأوكسجين مساحتها الكافية في قلبي ..

في صبح العيد الرابع .. لم يأتِ بعد .. لكنني أخمن أنه يشبه الليلة التي تسبق العيد .. الليلة التي عايشت فيها اختلاط الحزن بالفرح والدموع .. وحضن متسع كوطن .. وقبلة تنفي الصامدين في بلادنا إلى عينيك وحسب ..

لا يبدو الوقت مختلفاً إذ نقاومه نحن بشعور التواجد المقيت .. وبينما تسألني قريبتي عن سبب كوابيسي وهلوستي غير المنطقية ليلاً في محاولة لتفهم كمَّ التعب الواضح في عيني … أقوم أنا بتذكر صبح العيد الذي أطل منك وأنت تختبر كيف تقع القلوب بضحكات عشوائية عندما يُحرجها صوت قادم من خواء قلب ما .. قلب يريد أن يختصر العالم بضحكة من يحب فيجعله منيراً بها .. ليخبرها هامساً ذات صباح: “هذا العيد الذي يجعل الفرح يتهادى في قلوبنا المنهكة موتاً.. كل عام والعيد ضحكتك وحسب” …

المدينة هنا لا تختلف عن التي أقطن بها .. لكنها أكثر ضجيجاً وأنا أكره ذلك .. إلا أنني استعدت صوت ضحكتي العالي فيها .. حيث قال لي أحد العابرين أن ضحكتي العالية المجنونة هذه تجلب العيد غصباً رغم تأنيب أبي لي أمامه إلا أن الضحكة تلخصت بابتسامة مجاملة .. 🙂

لقد قلت لك سابقاً أنني لن أعد هذه الأيام لأنني أرغب باقتطاع الوقت دون أن يمسني خاطره .. أريده أن يمضي كما مضيت أنت .. بلا ضجيج مع خيبة مكتملة .. كما يمارس العابرون في حياتنا دور الأمل اللطيف بابتسامتهم العابرة .. هل أخبرتك أن الابتسامة تفتنني سابقاً؟! ..

منذ خمس سنوات وصديقتي في دوما تجعلني دائماً أتوسط العيد هناك .. فتخبرني بعدد القذائف الساقطة مع كل هدنة خائبة .. وتحدثني عن أسماء الشهداء والضحايا كأنني أعرفهم فتسرد لي حكايتهم ومكان سكنهم وعائلتهم .. كأنها ترمي بذاكرتها فيَّ لتكف عن نخزها … فتوجعني بذلك …صديقتي الأخرى تحكي لنا كل عيد عن أخيها المعتقل منذ أربع سنوات دون خبر يشفي جراح القلب في غيابه ولا يتعبها تكرار ذلك ..

أما معايداتنا السريعة فنتبادل بها وجع الغربة والابتعاد القسري فيما بيننا … ولاحقاً أعود لقراءة أخبار أصدقائي في مدن أخرى .. أبحث خائبة عن العيد الآخر الذي يتحدثون عنه في مكان أبعد من ذلك الوطن بمراحل تعيسة وموت .. أمر بهم كعابرة تعرف كيف تبتسم جيداً ثم أنذوي بقصص ذلك الوطن .. وبخيبة البعد الكثيف ..وبشوقي المجنون لك .. وأنتظر صبح العيد الرابع كي ينتهي نهاره الثالث بأسرع مما يتوقع الوجع المتهالك بي .. وبأكثف من السعادة التي تختصرها كلماتك وصوتك المشابه للسماء في ليلة صافية .. كهذه الليلة تماماً .. أستطيع رؤية القمر غير المكتمل فيها … وإحصاء النخيل حولي بتوجس بائس كي لا تسقط كحلم على رأسي كالعادة ..

#جنونيات_بنفسجية وهكذا ..

بلا مرفأ سلام ..

كنت قد ابتدعت يوماً لنا حكاية، وفرقتها بين العابرين في طريقي .. حدثتهم عن ظلال الكرمل الذي جلسنا نغني تحته طويلاً، وأصبحت أقصُ عليهم لوعة أن تمضي آخر الليل دوني في طريقك نحو بيتك الذي يحرس السماء أو تحرسه .. لا أدري!
كنت في خضم ذلك الموت أدرس كيف أستطيع العيش تحت ظل الشجيرات اللواتي زرعناها معاً ذات ليل دامس دون أن يعكر صفو ذاك الحب صاروخ عابر مثلاً .. حتى أصبحت تملأ هي المساحات الفارغة في قلبي حنيناً بعد غيابك .. وتظللني أوراقها كحلم لا ينام ..
كانت الحكاية طويلة جداً لكني مع الوقت أسلفت في سردها .. وجعلتها تدور حول أمر ما يشبه نهش الشوق في روحي بهذه العتمة .. ويشبه أن أغلق ستائري عن كل ضوء قد يجلبه لي هذا الشارع .. شارع مواعيدنا الكثيفة وأمطارنا التي سقطت من عيوننا وأخفتها السماء .. كنتُ أمضي كعادتي كلما باغتتني التفاصيل من جديد وارتسمت أمامي تنبئني بخراب جديد ستحدثه في قلبي .. كأنها تقرأ فكر التملص الذي أمارسه .. فتحاول إحياء ذاتها في روحي كي لا تسقط مني سهواً ..

لكن هذا لم يكن يكفي لملئ مساحة الموت الشاسعة بين روحي وروحك والسماء … ولم تك الدعوات أقرب لقلبي منك … أنا اليوم في مدينة غريبة من جديد .. ولم أشعر بالأمان وأنا أنظر للسماء من شباكها … لماذا تختلف السماء عن سمائنا هناك؟! .. لماذا تضيق بنا الحياة رغم أننا دائماً نفتح باباً متسعاً لها؟! … لماذا أطياف الذين نحبهم تغادرنا مبكراً جداً؟ .. عدنا للتساؤلات المقيتة مجدداً! … صحيح كنت أريد أن أخبرك أنني أصبحت في الرقم الثالث والخمسين بعد المئتين ولم أزل أواظب على ذلك الوعد ممسكة بآخر حبال الود بيني وبينك وبين هذا الكوكب المقيت .. يبدو أنني بذلك أؤكد لنفسي أنني لا أخاف الوحدة وأنني اعتدت الخسارات .. لقد أصبحت أبتسم لها مهما أوجعتني … لن أخبرك عن آخرها كانت ثقيلة بما يكفي لتملأ فجوة الابتعاد التي كنت أمارسها عن كل الناس حولي ..

أصبحت أخاف كل ما أشعر به .. وكل ما أتخيله ويصبح واقعاً الأمر متعب للغاية يا عزيزي! .. حتى ليلة رحيلك رأيتها كاملة في منامي ..  لهذا قررت العودة لمكاني اللطيف .. حيث يقبع الموت داخلي يحرس خيباتي ومواجعي برضا تام … فهو لم يخذلني منذ التصق بي ذلك اليوم عندما مر في منزلي مبتسماً لي … ينبئني بعودة ما ولم أكن أعرف حينها أنه سيكبر داخلي لهذا الحد .. على الرغم من انشقاقي عنه وهربي الكثير … لكنه كان الوحيد الذي يصمد معي دون أن يتحول اقترابه مني لسكين تحز كل حلم بي وأمل .. أنت أكثر من يعرف كم تتعبني المسافات وكم تحرق تفاصيل أحبها وكم تبدد كل جمال وبهجة؟! … أما هو فلم يكن يوماً هكذا!…

المدن الغريبة يا عزيزي تمارس لعنة الشتات بقوة أكبر ..ونحن الذين نحاول أن نحتضن غيابنا عن مدننا بالبحث عن موطن جديد .. نسيت إخبارك .. كل المواطن دونه كذبة .. مثلك .. ومثله .. ومثل كل الذي مر وسيمر لاحقاً .. المنافي تقتل فينا كل شيء نحاول إحياءه … تمارس سطوة الغياب والاغتراب والوجع بشكل مضاعف .. حتى أننا نمارس الحزن والوحدة فيها بالخفاء ليلاً .. دون أن يلحظ أحد عمق جراحنا ونحن نضمدها بينما لا يكف الآخرون عن العبور بها ونهشها … هناك صوت داخلي يقول لي أن قذيفة سقطت في بستاننا … وأن الورد الذي زرعته لي ذبل تماماً كما تذبل الأشياء في روحي تباعاً … هناك شهيد جديد أيضاً .. وأنا أقرأ وداعات أصدقائه وأبكي …  اسمع نصيحتي وأغلق بريدك يا عزيزي يبدو أنني لن أكف عن هذه العادة الغبية .. ويبدو أنني سأمضي في هذا الغياب من جديد بقصص أكثر ضيقاً .. ستؤنسني ميادة في أغنيتها طوال هذه الفترة “أنا أحلالي أمشي وحدي بلا رفيق” … هناك دائماً من  يُجرم بحق المسافة ليؤذيك ومتى يفعل ذلك يمضي … لذلك سأمضي بسيئاتي وأحمل من الآخرين ما أحمل .. كن بخير .. أو في الحقيقة لا يهمني الأمر .. أنا متعبة .. وداعاً !

#جنونيات_بنفسجية

حالما يمتد الصباح..

الصباح الذي يغتالك في الغربة يشبه أن يُسلط أحدهم ضوءاً على جرحك النازف فيجعله واضحاً مرئياً لكن ليس لأحد سواك، الصباح في الغربة يشبه أن تبادل سقف غرفتك نظرة طويلة وترتجيه أن يخبرك أنك لست هنا ولم تزل هناك كما ترغب دوماً، مثلما تقول صديقتي أن “هون” في قانون العالم أجمع هو حيث تقطن، إلا في كلامنا تعني حيث يقطن قلبك حصراً أي في دمشق.. الصباح في الغربة لا يشاركك به أحد من جيرانك ولا أقاربك الذين يقطنون في جوارك، ويستَلفون من خبزك الساخن رغيفاً يمضغون خيرك فيه بينما تحدثهم على درج البناء متجاهلاً أن قلوب الجائعين في منزلك تراقب الفول والحواضر نهماً، الصباح في الغربة وحيد مثلك، بارد ولا يحمل أي رفاهية إلا أنك تبكي صامتاً بُعدك عن تلك المدينة بضجيج كل الموت فيها، ناقماً على كل أمان تقدمه لك الغربة، أمان كالموت.. ظاهره فيه الحياة وباطنه عذاب ومر..

الصباح في الغربة يشبه يومياتك تماماً، تستيقظ من نومك جافلاً كأن الصاروخ الذي أسقطه النظام في بلدك، استقر في قلبك أنت، والشظية التي شقت رأس ابن الخمس أعوام في حارتكم المدمرة، قد مزقت نومك الهانئ بكوابيس جعلتك تصيحُ كأن الموت حولك، في الغربة كلما استيقظت أمسكت قلبك جيداً أدرته لتتأكد أن كل شرايينك تعمل جيداً، وأن شعور النخز الذي ينهكك دائماً، لم يؤدي إلى تشكل جلطة صغيرة في إحدى الأوردة المتململة،  في الغربة حتى جسدك يكره إنهاكك، ويكره استيقاظك المحموم هذا في كل ليلة، في الغربة لا تُدفئك المدافئ الكهربائية أبداً، وتشتاق دائما لرائحة المازوت في مدفئتكم التي كسّرتها أيادي اقتحامهم ذات يوم، ورائحة الحطب الذي استعضتم به عن غلاء البنزين يوماً، في الغربة لا تشعر بأن البرد يخفف من ارتفاع درجات الحرارة، ولا يعمل المكيف كحاله في بلادك، بل يزيد من ارتجافك أكثر، ويجعل عظامك تصطك على بعضها البعض، هذا الصوت ستسمعه كثيراً، لن تشعر بالراحة خارج ذلك المكان..

في اغترابك كلما ظننت أنك لممت جراحك، وأنك ستعتاد أن تباغت حلمك في مرقده وتوقظه ليعينك على الحياة، تجده يائساً متعباً أكثر منك، وكأن تلك البلاد خصتك بلعنة هجرها، فلا يمنحك الأمان خلاصاً، كما لم تمنحك هي ذات يوم موتاً يقدم نفسه إليك كهدية لصبرك كل تلك الأعوام، في اغترابك يصبح الحلم خطيئة وتصبح كل الخطوات التي تحاول أخذها ربما لتفعل شيئاً لأجل البلاد ولأجلك مرتبكة صغيرة فاشلة، هنا لا يتجاوز حلمك هذا السقف المهترئ فوقك، كل يوم تستيقظ متأملاً إياه هامساً لنفسك إنه هو، سقف منزلي هناك، لقد انتهى الكابوس إذن، وتظن أن تعبك الذي صحوت معه بعد كابوسك المعتاد، كان امتداداً لكابوس الحياة الأصلي الذي تعيشه يومياً، ثم تفهم أنك بعيد جداً، وأن كل الذي حلمت به هو حقيقة مطلقة كاغترابك تماماً، وأن كل ما تسمعه من صرخات وموت وقصف وابتهالات، هي ممارسات عقلك الذي يُحملك وزر كل شيء وكل ما حصل، وزر ابتعادك، وصمتك، وحياتك الغريبة هنا …

في صباح الغربة لن تجد من تقول له: صباح الخير، لأن عيونك لا تحمل الخير في الحقيقة، ولأنك تركت الخير في تلك البلاد وتحمل وجع اغترابك عنها وعن كل موت فيها بلا خير يذكر، هنا لا خير لك، ستمر بين الآمنين مبتسماً لهم، وفي روحك غصة المشردين من أبناء شعبك في أصقاع العالم، ستنظر للآخرين الذي يتناسون أهلهم وأقاربهم في غمرة انشغالهم متحسراً على حضن صغير تطلبه من هذا الكوكب المقيت لخالك الذي تشتاق له بعد اغتراب طويل في سجون الأسد مثلاً، ستراهم يتبادلون الضحكات واللعنات والفرح، بينما تتقاسم أنت مع أصدقائك في الداخل أعداد القذائف والمضادات والرصاصات التي استقرت في روحك، وأسماء الشهداء الذين لم يفتح لهم الحلم باباً أوسع من الموت ..

في الغربة كل صباح ثقيل .. وكل ليل يحرس كوابيس مدنك المنكوبة .. وهكذا!

#جنونيات_بنفسجية

وأنا أصطنع جُرحاً..

كنت أمارس عادة التذكر كحالي منذ أيام طويلة، أحاول اختبار ذاكرتي التي أصبحت تتعبني فراغاً في الفترة الأخيرة، لا سبب لذلك لكني أرجح بعض الأمور، هناك شخص ما ذات يوم قال لي: “ذاكرتك قوية بدرجة مخيفة” تعقيباً على تذكري لإحدى التفاصيل الصغيرة جداً في محادثة مر عليها وقت طويل، لن أقول أن تعب ذاكرتي مؤخراً عبارة عن “طرقة عين” ليس إلا، لأن هذا التصور يُبنى عليه كل ما حصل معي براحة بال ولعن مطول لمن يتابعونني بعيونهم، وهذا ليس منطقياً.  السبب الآخر يعود إلى مقال قرأته ذات يوم أن الاكتئاب سبب من أسباب فقد الذاكرة، هذا أيضاً لا يُعول عليه تماماً، فقد يكون مقالاً ربحياً مثلاً. أما الأخير فأخي الذي أخبرني ذات يوم أن التفاصيل ستنهكني آخر الأمر، وأغلب الظن أنها فعلت..
حسناً، في هذه الأيام كان تدريب التذكر قائماً على الذاكرة التي شاركتك الوقت آنذاك، هذه الذاكرة كانت متعبة كثيراً، لكنها تعيد التفاصيل في ذهني كأنها لا تخصها، وكأن الذي عاشها أحد ما غيرها وغيري، كانت تحاول فصل الأمر عن شخصك تماماً، مما جعل إعادة التذكر هذه مصحوبة بوجع أبسط في معدتي، وتشنجات أقل في أعصاب يدي، كانت تقول ذاكرتي على سبيل المثال: “أغنية وعيونها لسناء الموسى سمعتِها في ليلة من ليالي ديسمبر وكنتِ تستمتعين بالموسيقا والكلمات، أما من أهداك الأغنية فلم يكن موجوداً بقربك تماماً… أو … عزيزتي في نهاية شارع الصالحية لم يكن الرصيف سيئاً جداً للجلوس بل كانت السماء في صبح الخميس هادئة، لم يكن هناك من يمسك يدك إذ أنك كنت ترتجفين من الوحدة” ..
عزيزي من المسيء للتفاصيل دائماً أن نربطها بأشخاص ونتناسى أن الأشخاص دائماً حالة مؤقتة، تعددت أسباب رحيلهم والرحيل واحد، من المسيء لنا أن نفقد أعز الأشياء على قلوبنا لأن أحدهم صادفنا في حياتنا ونحن نمارسها وشاركنا ذلك، لماذا نربط جمالية اللحظة بمن نشاركه لا بما نشاركه؟، لماذا نُصر على خلق نُدوب في روحنا دائماً بلا وعي؟!.. إنها حماقة!
إليك مثلاً القانون السائد “المدن بناسها” هو بالنسبة لي ضعيف وغير مسند لحقيقة ثابتة، فالأشخاص في المدينة هامش، صحيح أن الجمال بالمدينة يكتمل بهم لكنه ليس كل شيء، المدينة هي ذاكرتك فيها، شارع حفظ تفاصيلك، حارة مررت بها يوماً وابتسم لك بائع الجانرك مقدماً لك واحدة على سبيل الـ “دواقة”، وقفتك عند بائع الذرة المشوية بعد مشي طويل، وقوفك تحت المطر ورقصك الجنوني وركضك دون أن يشاركك أحد، وربما حب جميل عشت تفاصيله الكاملة رغم انتهائه بعد ذلك..
المدينة التي نحبها لا نحبها لأنها مليئة بأشخاص نحبهم وحسب، بل لأنها امتداد عظيم لذاكرتنا، لأطياف أحببناها، ولأغنيات سمعناها بها، لتفاصيل ضيقة وشخصية جداً، وربما تكون وحيدة ..
لذلك يا عزيزي أنا منذ عرفت أن الحياة أقصر من أن أمارسها وأنا أسند رأسي على كتف بشري، منذ عرفت أن الذي سيؤلمني لاحقاً هو الكم والكيف الذي بذلته من نفسي مع الآخرين، منذ عرفت أن لا شيء يجدي عندما تمارس التعب والوجع وحدك والآخرُ يعيش في تمام السعادة والفرح، تيقنت أن لا شيء في الحياة أوسع من عيني عندما أضحك، وأن لمعة الدموع تلك ليست جمالاً كما يقولون، وأن الوجع الذي يعاقبني به جسدي في كل مرة هو ذاته رجاؤه لي عندما أشحت عنه وهو يناشدني “أن لا أفعل، وأن لا أحب” لكن على شكل عتب ما..
أعرف أن ذاكرتي هذه لن تنسَ، وأعرف أن الكثير من الأغنيات والشوارع كانت جزءاً من حكايتنا معاً، وأفهم تماماً توغل الموت في روحي من كل ذلك الخواء الذي خلّفه وجعك بي، لكنه أبداً لن يجعل الحياة معتمة أكثر، ولن يقيّد تفاصيل أحبها في دمشق أو أغنيات اعتدت سماعها، أو حركات وضحكات وكلمات كنت أقولها دائماً، لن يجعل كل هذا الشيء هامشياً ولن يخلق من سواد الذكرى حاجزاً يحرمني لذة التفاصيل التي أحبها..
أنا أقدَرُ من قال وداعاً يا عزيزي عندما استبد به الألم، وأقل المتمسكين بظل من أحبوهم، أنا أكثر القادرين على الحياد بأنفسهم أمام معركة الخسارة هذه، دون أن يعنيهم الأمر تماماً، لكني أعتقد أن من سيحقد عليك دائماً وربما سيلعنك ويدعو عليك هم الأوفياء الذين قد يمرون في حياتي بعدك، الأشخاص النقيون الذين سأعاملهم بجفاء تام، أولئك الذين لا ذنب لهم في كل الحكاية سوى أنهم مروا بي بعد أن تركت داخلي كل هذه البشاعة والسواد والكره .. 🙂