بين الموت والوطن..

‏الموتُ الذي يشكل فارقاً أمام كل ما نشعر به، نرتب شعورنا صدفة، ونكتشف أن كل أحزاننا تقف خلفنا، وأن الموت المنهك هو الذي يقابلنا، نحن نصلي دائماً لأرواح الذين نحبهم حتى لا يمسهم موت ما، بينما يقول لنا الموت أنا هنا باسمكم ولأجلكم ..
قرأتُ منذ فترة كتاب “انقطاعات الموت” يتحدث عن بلاد تركها الموت وظن الناس فيها أنهم شعب الله المختار الذي سيخلد على هذه الأرض، كل الحكاية أن الأشخاص هناك باتوا يعيشون حلم السعادة بأن يبقى أحبابهم الناجون من الموت ليشاركوهم تفاصيل هذه الحياة بتمامها وجزئياتها كافة دون أن يدرك أحد منهم أن النهاية قد تكون لصالحنا أحياناً ولصالح من نحبهم حتى ..

فإلى متى تستطيع منع الموت عنهم؟!… في النهاية يصل بعضهم لحقيقة أن هذه الحياة أذية، حيث يقرر أحد الأجداد أنه يرغب بالموت ووضع ختام لحكايته وحفيده المريض، فتخرج به ابنتيه وصهره إلى الحدود حيث يتمكن ملك الموت من إتمام مهمته، في قناعة الجد أن حياته متعبة وستكون عبئًا عليهم لأنها منتهية في الحقيقة، لاحقاً تجد أن كثيراً من الناس اقتنع تماماً بفكرة وضع النهاية المنطقية لحياة من يُقعده المرض أو الهرَم، ثم تبوء محاولات الحكومة بوقف هذا الجنون البشري بالفشل. هنا تعرف أن أنانيتنا اتجاه وجود الأشخاص بيننا تتضاءل إن فكرنا في منطق النهاية التي تريحهم، لا التي تحرس وجودهم من وجهة نظرنا الخاصة..
لكنني فكرت في منحى آخر تماماً، ماذا لو كف الموت عن سرقة أحبائنا في سوريا فعلاً؟
أولئك الذين تليق بهم الحياة؟
المليئون بها، والكثيرون على تلك الأرض، من يباغتهم موت محتم بلا رأفة، وبلا نهاية منطقية، موت عابث يتحكم به قاتل واحد يردي الجميع تحت مظلته القاتمة، وتسانده بقتلهم كل أسلحة العالم ..
أتفهم شعور أن تمسك قلبك لأيام بينما تتنتظر نجاة أحدهم من الموت؟!
أتستطيع إدراك حجم الأسى الذي ينالك وأنت تترقب بعد كل مجزرة أسماء الضحايا خوفاً من اسم تعرفه ولو من بعيد؟!
نحن أنانيون اتجاه حياة من نحبهم فعلاً، لأننا نرى في حياتهم شريان حياتنا المفقود، بعد رحيل الكثيرين ممن عرفناهم أو تعرفنا عليهم في الثورة، نكتشف أن قلبنا الصغير الذي كان متسعاً ذات يوم أصبح أضيق من خرم إبرة، وكل ما يتسلل فيه هو وجع عظيم نتنهده بأسمائهم الكثيرة، في الحقيقة، ذاكرتي العشرينية لم تعد تسعفني فقد أصبحت مليئة بأسماء الشهداء والمفقودين..
قال لي صديقي يوماً أن المتعب في الحكاية هو أن تعرفي الشهداء، فالحزن عليهم أكبر، حاولت مراراً أن أشرح له، أن مسافة الأمان التي كانت بيني وبين كل الشهداء الذين بكيت عليهم لم تسعفني، ولم تخفف من ذلك الوجع ولا من حدته، كان الموت الذي يمر بهم، يمر بقلبي فينتزع روحي ويعيدها في الدقيقة ألف مرة، ويمر الوقت بي، لا أتخلص منهم ولا من الشق الذي يُفتح في روحي باسمهم، لا أستطيع توسعة قلبي حتى  بكل التبريرات المشابهة عن البعد..
لو انقطع الموت عنا، لبعض الوقت، واستطعنا ترتيب أسماء الشهداء من جديد، أولئك الذين نعرف تماماً أن حقهم علينا لم نؤده كاملاً، وتمكنا من الوقوف على رأس جرحانا ونحن نتأمل خيراً كثيراً بعودتهم إلينا لإكمال الدرب معاً، ولو تصدر الموت قائمة الوفيات الطبيعين، الطبيعي جداً، هل ستكون الحياة حينها تستحقنا لنمضي بدربنا الأخضر من جديد؟
أم أن اهتزاز الحزن والخيبة فينا سيودون بنا صرعى في هذه الحياة لا مكان لنا، لا رأفة تحيط بنا، لتبقى حياتنا في النهاية جزء من كل الأوجاع التي مررنا بها في الخمس سنين الماضية، وربما لعنة نجاتنا مثلاً، لنكتشف أن الموت يلاحقنا، يلاحقنا ليبتسم في وجوهنا ويخبرنا أنه لا نهاية ولا صاحب لنا إلاه .. وحده!

#جنونيات_بنفسجية

4 thoughts on “بين الموت والوطن..

  1. أبكيتني يا راما .. هذه التدوينة تحكي وجعنا نحن جميعا، لعنة أن تكون بقرب من تحب، أن تسامرهم ذات ليلة وتبحث عنهم في الصباح لترى أن الموت قد سبقك إليهم، وبدون موعد مسبق، هذه اللحظة التي تكون فيها مصدوما، تبحث في ثنايا عينيك عن دمعة، دمعة واحدة، دمعة يتيمة، تهديها لنفسك لتشعر أنك إنسان، لا تجد، فمنهل الدمع جف عن آخره، وها نحن هنا، يضحك الموت علينا كل يوم، ولا طاقة لنا بالبكاء!

    كما قال سرمد، رائعة كالعادة

    Liked by 2 people

Leave a comment